يُتوقّع أن يؤمّن الانسحاب الأميركيّ من أفغانستان فرصاً عدة للدول المخاصمة لواشنطن. خلقت الولايات المتحدة بلبلة عالمية حول طريقة تنفيذ الانسحاب، خصوصاً بالنسبة إلى الحلفاء الأطلسيين. لكنّ مسار تراجع البصمة العسكرية الأميركية من المسرح العالمي ليس جديداً. منذ أطلق الرئيس السابق دونالد ترامب شعار "إنهاء الحروب التي لا تنتهي"، شرعت دول آسيوية عدّة ومن بينها إيران تستعدّ لمرحلة ما بعد الخروج الأميركيّ من أفغانستان. في الواقع، وجدت إيران في الواقع الجديد فرصة للانتقام من أحداث تاريخية أفقدتها الكثير من الأراضي.
على سبيل المثال، وفيما كانت بريطانيا من أشد المتضررين بفعل الانسحاب، من المرجح أن تبحث إيران عن لحظة استعادة نفوذها في غرب أفغانستان، بعدما كانت قد خسرت قسماً كبيراً من أراضيها بفعل طرد البريطانيين للقاجاريين في القرن التاسع عشر من ولاية هرات. وتوصف مدينة هرات باسم "إيران الصغيرة" بالنظر إلى أنّ غالبية من يقطنها اليوم من الشيعة الناطقين بالفارسية. وهنالك احتمال بأن تسعى إيران في السنوات المقبلة لإقامة منطقة عازلة خاصة بها في غرب أفغانستان كجزء من توسعها الإقليمي، وكجزء من مسعى الدول المجاورة الأخرى في إقامة مناطق كهذه استعداداً لاحتمال عدم تمكّن الحركة من بسط نفوذها على كامل الأراضي الأفغانية كما هو متوقّع.
منظمة شنغهاي للتعاون
تهتمّ إيران باستقرار أفغانستان لأنّها ستكون أوّل من يتحمّل موجة جديدة من اللاجئين أكانوا يريدون الاستقرار فيها أو عبورها باتجاه تركيا ومن ثمّ إلى أوروبا. ويعدّ هذا الهدف كواحد من الحوافز للانضمام إلى "منظمة شنغهاي للتعاون". في 2005، أصبحت إيران عضواً مراقباً في المنظمة لكنّها رغبت ولا تزال باكتساب عضوية كاملة فيها. في 11 آب الماضي، أعلن أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني أنّه "لحسن الحظ، تمت إزالة العراقيل السياسية أمام عضوية إيران في اتفاقية شنغهاي، وسيتم استكمال عضوية إيران عبر شكليات تقنية". جاء هذا الحديث بعد اتصال هاتفي مع نظيره الروسي نيكولاي باتروشيف تباحث خلاله الطرفان بالمستجدات الأفغانية والسورية وشؤون الخليج. في ذلك الوقت، كانت "طالبان" قد سيطرت على العديد من عواصم الولايات وبسرعة قياسية.
بعدما أصبحت باكستان والهند عضوين في المنظمة سنة 2017، بقيت طاجيكستان وأوزبكستان معترضتين على انضمام إيران إليها. ربّما يأتي إسقاط تلك الدولتين اعتراضهما المفترض بدفع من روسيا. لكنّهما قد لا تحتاجان أيضاً إلى دفع كهذا بالنظر إلى أنّ التطورات الميدانية سبب كافٍ لخطوة كهذه. فتحوّل إيران إلى عضو كامل في المنظّمة سيؤمّن دفعاً بارزاً للتخطيط الأمني الشامل بين الدول الأعضاء وسيساعد طاجيكتسان وأوزبكستان في الحصول على دعم استخباريّ وربّما عسكريّ. وخاضت الأقليتان الأوزبيكية والطاجيكية في افغانستان معارك شرسة ضدّ "طالبان" ضمن "تحالف الشمال". وأحمد مسعود الذي يقود المقاومة ضدّ الحركة في وادي بانشير هو من أصول طاجيكية. والأمر نفسه ينطبق على نائب الرئيس الأفغاني السابق الذي لجأ إلى بانجشير أيضاً أمرالله صالح.
تسعى المنظمة إلى تعزيز أواصر التعاون بين دولها الأعضاء الثمانية، على المستويات الثقافية والتجارية والاقتصادية. لكنّ أساس تشكيل المنظّمة هو أمنيّ، حتى أنّ البعض يصفها بأنّها قوّة أوراسيّة هدفها تشكيل وزن مكافئ لحلف شمال الأطلسيّ. في الوقت نفسه، تبدو إيران وروسيا والصين مستعدّة للاعتراف بحكومة "طالبان" الجديدة، ممّا يعني زيادة في التنسيق بين الثلاثيّ، واحتمالاً أكبر في تحقيق طهران هدفها.
فرص أخرى
من بين الدوافع التي تحثّ إيران على توسيع نفوذها في أفغانستان بعد رحيل الأميركيّين تقييد تهريب المخدرات إلى الداخل الإيرانيّ. فنسبة الإدمان على المخدّرات بين الإيرانيين تضاعفت مرّتين خلال ست سنوات في العقد الماضي. من ناحية أخرى، تهتمّ إيران بتأمين تحويل مياه نهر هلمند إلى مدينة مشهد شرقي البلاد بالنظر إلى اعتماد المدينة عليه بشكل حيوي. كذلك، تعدّ إيران أكبر شريك تجاريّ لأفغانستان وهذا يرفع احتمالات اعتراف طهران بالحكومة الجديدة للحفاظ على العلاقات الاقتصادية. وتدرك إيران أنّ "طالبان" بحاجة للأموال من أجل إدارة البلاد، خصوصاً أنّه من غير المرجّح أن ترفع واشنطن قريباً حظر البنك المركزيّ الأفغانيّ من الوصول إلى أصوله في الاحتياطيّ الفيدراليّ. وتتراوح تقديرات هذه الأصول بين 7 و 9 مليارات دولار.
منذ 2014، حلّت إيران مكان باكستان كأكبر شريك تجاريّ لأفغانستان. وتشكّل إيران 25% من إجمالي التبادل التجاريّ لأفغانستان مع جميع الدول الخارجية (2 من أصل 8 مليارات دولار). علاوة على ذلك، لن يكون مستغرباً تمكّن إيران من رفع نسبة التفافها على العقوبات الأميركيّة بعد رحيل الولايات المتحدة من البلاد. حتى قبل الانسحاب، تمكّنت إيران من بيع النفط إلى أفغانستان، بينما شكّلت تلك التجارة "غير الشرعية" حوالي نصف التبادل التجاريّ بين البلدين (مليار دولار تقريباً).
ويؤمّن ميناء شاباهار الإيرانيّ إمكانيّة وصول للدولة غير الساحلية إلى المياه الدافئة. وهو يؤمّن أيضاً إمكانيّة إيصال الهند لسلعها إلى أفغانستان متفادية بذلك باكستان لتحقيق غايتها. وستثار تساؤلات أيضاً عن السبب الذي سيمنع الهند من مساعدة إيران على تفادي العقوبات، بعدما تركها الانسحاب الأميركيّ في موقع أضعف بمواجهة الصين وباكستان. من جهة ثانية، ترتبط نيودلهي وطهران بممرّ النقل الدوليّ بين الشمال والجنوب (7200 كيلومتر). أساس فكرة هذا الممرّ روسيّ-إيرانيّ-هنديّ حيث تسعى هذه القوى الثلاث إلى إحيائه.
ما من طبق فضّة
وفّر إصرار بايدن على الانسحاب من أفغانستان فرصاً كثيرة لإيران كي تتوسّع شرقاً. لا يعني ذلك أنّ جميع هذه الفرص ستُقدَّم على طبق من فضّة. فهنالك خلافات داخلية عدّة في إيران حول مقاربة المشاكل في أفغانستان والمدى الذي يمكن لطهران من خلاله الوثوق بـ"طالبان" وتوطيد العلاقات معها. حتى انضمام إيران إلى "منظّمة شنغهاي للتعاون" ليس مضموناً بعد بحسب الباحث البارز في "مركز الدراسات الشرق أوسطية الاستراتيجية" ومقرّه طهران مسعود رضائي. ورأى رضائي أنّ الصين لا تزال ترفض دخول إيران إلى المنظّمة كي لا تحوّلها إلى ما هو معادٍ للولايات المتحدة.
كيف ستتعامل إيران مع هذه الفرص/الإشكاليّات رهن المتابعة. المؤكّد أنّ الانسحاب الأميركيّ سيترك ديناميّات جديدة في آسيا التي تتحوّل تدريجيّاً إلى المركز الجديد للثقل السياسيّ الدوليّ.