للعام الثاني على التوالي، ترفض ذكرى "يوم النصر" منح الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين النصر الذي يأمله، حتى ولو كان رمزيّاً. في 24 شباط 2022، كان الرهان على أنّ الروس سيحتفلون في التاسع من أيّار بـ"عودة" أوكرانيا إلى "العالم الروسيّ" (Russkiy mir). ما كان يُفترض أن يكون معركة سريعة لإطاحة حكومة كييف واستبدالها بحكومة موالية لموسكو انقلب فجأة إلى الحرب الأكثر كلفة على الروس منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية.
بدلاً من "الهديّة"... مشكلة
خفّض الكرملين سقف توقّعاته بعد شهر على محاولة اقتحام كييف. حين أعادت القوّات الروسيّة انتشارها لتركيز الهجوم على الشرق الأوكرانيّ، أمل الروس أن تسقط ماريوبول بحلول "يوم النصر". خابت التوقّعات مجدّداً. سقطت المدينة في النهاية، لكن بعد نحو أسبوع على الذكرى. اليوم، تشخص الأنظار الروسيّة إلى باخموت.
كان من المفترض أن تسقط المدينة بيد القوّات الروسيّة ومقاتلي "فاغنر" قبل التاسع من أيّار. بين أواخر شباط وأوائل آذار، حقّق الروس تقدّماً سريعاً. كان مصير باخموت شبه محسوم. في 8 آذار، حذّر أمين عام حلف شمال الأطلسي "ناتو" ينس ستولتنبرغ من أنّ المدينة قد تسقط "خلال أيّام". فاجأ الأوكرانيّون حلفاءهم قبل أعدائهم. لا يزال أقل من 20 بالمئة من المدينة بيد القوّات الأوكرانيّة بعد شهرين على التحذير. ومن غير المرجّح أن تسقط باخموت بحلول احتفالات "يوم النصر".
وهدّد مؤسّس مجموعة "فاغنر" يفغيني بريغوجين بأنّه يريد سحب مقاتليه من المدينة بسبب "حجب" وزارة الدفاع الذخيرة عنهم. ووجّه رسالة يوم السبت إلى الوزارة نفسها كي تسمح له بإخلاء مواقعه لقوّات الرئيس الشيشانيّ رمضان قديروف. أعرب الأخير عن استعداده لهذه المهمّة. لكنّ الأسئلة بشأن إمكانيّة تنفيذ هذا الهدف من دون تهديد الجبهة، بل من دون تهديد سلامة عمليّة انسحاب "فاغنر" بسبب الافتقار لحماية الجيش الروسيّ، تحضر بقوّة. (أعلن بريغوجين لاحقاً أنّه تلقى وعوداً بالحصول على الذخيرة "الضرورية لمواصلة القتال" في ما يبدو تراجعاً ضمنياً عن تهديده وتأكيداً لاستحالة تنفيذ الانسحاب، أقلّه على المستوى العمليّ.)
ضربات معنويّة
أزمات عدّة ستعكّر الاحتفالات بيوم النصر. والإخفاقات الميدانيّة في أوكرانيا مصدرها الأوّل. "ظلُّ" المسيّرتين اللتين قالت موسكو إنّها أسقطتهما فوق الكرملين بعدما حاولتا "اغتيال" بوتين سيكون حاضراً أيضاً. بصرف النظر عمّا إذا كانت أوكرانيا قد أرسلتهما أو عمّا إذا كانتا عملاً روسيّاً داخليّاً هادفاً إلى التصعيد، يبقى تحليق المسيّرتين في ما يفترض أن يكون أحد أكثر الأماكن أمناً في موسكو ضربة معنويّة للروس. تضاف الأخيرة إلى سلسلة من الهجمات الغامضة التي يمكن افتراض أنّ أوكرانيا تقف خلفها، وقد طالت بنى تحتيّة ومنشآت نفطيّة وحتى شخصيّات من الوجوه القوميّة الروسيّة المؤيّدة للحرب.
منذ مطلع سنة 2023، رصدت "بي بي سي" بالاستناد إلى الإعلام الروسيّ نحو 30 هجوماً بالمسيّرات داخل روسيا أو المناطق التي تسيطر عليها روسيا في أوكرانيا. وفي آخر حلقات هذه السلسلة، أعلنت روسيا الاثنين الماضي أنّ ثلاثة من أفراد الخدمة لديها قتلوا بعد إسقاط مسيّرة أوكرانيّة كانت قد اقتربت من قاعدة إنغلز العسكريّة الروسيّة التي تبعد نحو 450 كيلومتراً عن الحدود مع أوكرانيا والتي تضمّ بعض القاذفات الاستراتيجيّة.
قرارات إلغائيّة بالجملة
يعدّ "يوم النصر" أحد أبرز الأعياد الوطنيّة في روسيا، إن لم يكن أبرزها، وهو يستذكر انتصار الاتحاد السوفياتيّ على القوّات النازيّة. لا تحتفل موسكو وحدها بهذا العيد. تعمّ الاحتفالات مناطق متنوّعة في روسيا، لكن بسبب الهجمات التي تتعرّض لها البلاد قرّر بعضها إلغاءها، كما حصل في بلغورود وبريانسك وكورسك المحاذية لأوكرانيا. وقال حاكم بلغورود فياتشسلاف غلادكوف إنّه لم يرد "استفزاز العدوّ بعدد كبير من المعدات والأفراد العسكريّين في مركز المدينة". لكن ثمّة مناطق بعيدة من الحدود اتّخذت قراراً مماثلاً مثل بسكوف وتيومن في غرب سيبيريا. يبدو أنّ هذه إحدى نتائج ما وصفه البعض بأنّه "نقلٌ للمعركة" إلى داخل الأراضي الروسيّة.
ومن أبرز علامات خفض مستوى الاحتفالات هذه السنة إلغاء مسيرة "الفوج الخالد" علماً أنّها كانت حاضرة في "يوم النصر" 2022. لم تستخدم روسيا كلمة "إلغاء" لكنّها قالت إنّه سيتمّ تغيير شكل الاحتفال عبر وضع العائلات صور قتلاها في الحرب على النوافذ ووسائل التواصل الاجتماعيّ. لكن لا يتعلّق الأمر فقط بالمخاوف الأمنيّة. بحسب المؤرّخ مكسيم كوزخميتوف، ثمّة قلق في روسيا من أن تقوم عائلات بحمل صور لأبنائها الذين قُتلوا في أوكرانيا بدلاً من الحرب العالميّة الثانية.
مرحلة مفصليّة
تقترب أوكرانيا من شنّ هجومها المضادّ وتبدو المؤشّرات الأولى غير مشجّعة بالنسبة إلى روسيا. حتى قبل بدء القصف الأوكرانيّ الواسع، أعلن مسؤولون موالون للروس إجلاء العائلات التي تضمّ مسنّين وأطفالاً من البلدات القريبة من خطّ المواجهة في جنوب البلاد وتحديداً في منطقة زابوريجيا. وقال المسؤول عن المنطقة المعيّن من قبل روسيا يفغيني باليتسكي إنّ الهجمات الأوكرانيّة طالت 18 بلدة وهي البلدات التي سيشملها الإجلاء "الجزئيّ". يأتي الهجوم الأوكرانيّ المرتقب عقب فشل الهجوم الروسيّ الذي أطلقته موسكو في الشتاء.
يرى ناشر الشؤون الأوكرانيّة في مركز "أتلانتيك كاونسل" بيتر ديكينسون أنّه بالنظر إلى جميع الظروف السلبيّة، لن يكون لدى بوتين خلال الاحتفال الكثير ليتحدّث عنه بالنسبة إلى المستقبل، لذلك قد يعوّض عن هذا الأمر بالحديث عن أمجاد الماضي. لكنّه يشير بالمقابل أنّه بعكس روسيا في الوضع الراهن، تمكّن السوفيات من الاحتفال بذكرى ثورة تشرين الأوّل في الساحة الحمراء حين كان الجيش النازيّ على بعد كيلومترات منها سنة 1941.
قد تكون الذكرى الثامنة والسبعون لـ"يوم النصر" أصعب لحظة يواجهها الرئيس الروسيّ طوال 23 عاماً من الحكم. ليس لأنّ الذكرى تعقب أشهراً من الإخفاقات الميدانيّة وحسب، بل لأنّها قد تسبق أشهراً أكثر صعوبة حتى. إنّها بداية مرحلة مفصليّة على طريق أهمّ: الانتخابات الرئاسيّة في آذار 2024.