"يقود الغرب أوكرانيا في مسار مخادع والنتيجة النهائية ستكون أوكرانيا محطّمة. وأنا أعتقد أنّ السياسة التي أدعو إليها، والتي هي تحييد أوكرانيا ثمّ بناؤها اقتصادياً وإخراجها من المنافسة بين روسيا من ناحية وحلف الناتو من الناحية الأخرى هو أفضل ما يمكن تحقيقه للأوكرانيين. ما نفعله هو تشجيع الأوكرانيين على التفكير بأنهم في النهاية سيصبحون جزءاً من الغرب لأنّنا في النهاية سنهزم بوتين وفي النهاية سنمشي في طريقنا والوقت لصالحنا... والأوكرانيون بشكل شبه كامل تقريباً لا ينوون التفاهم والتسوية مع الروس وبدلاً من ذلك، يريدون تنفيذ سياسة متشددة... إذا فعلوا ذلك فستكون النتيجة النهائية هي تحطم بلدهم. وما نفعله في الحقيقة تشجيع هذه النتيجة. أعتقد أنّه سيكون أكثر منطقية... أن نعمل على تأسيس أوكرانيا محايدة".
لاقت هذه المحاضرة التي ألقاها الأستاذ المتميّز لمادة العلوم السياسية في جامعة شيكاغو جون ميرشايمر سنة 2015 رواجاً كبيراً على وسائل التواصل الاجتماعيّ والمواقع الإخبارية مؤخّراً باعتبارها توقعاً سياسياً صدق إلى حد بعيد، كما باعتبارها مصادقة على "ذنب" الغرب في إيصال أوكرانيا إلى ما هي عليه اليوم.
يعتقد مراقبون كثر، ومن بينهم من يذهب إلى حدّ الجزم، بأنّ طلب أوكرانيا الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) واستعداد الغرب البحث في هذا الطلب سببان مباشران وراء شنّ الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين اجتياحاً للبلاد. تستند الفرضيّة إلى أنّ الناتو لم يتوقّف يوماً عن التوسّع شرقاً حتى وصل إلى التماس مع حدود روسيا عبر ضمّه دول البلطيق. بالتالي، ما يريده الغربيّون هو تطويق روسيا وفصلها عن مداها الأوروبي، وربّما مهاجمتها في حال اقتضت الحاجة.
لم يقدّم الغربيّون ضمانات خطية للروس بأنّ أوكرانيا لن تنضم للناتو، بما يعنيه ذلك من أنّ الحلف الأطلسيّ سيواصل تهديد روسيا. علاوة على ذلك، إذا قام الغربيّون بنشر أسلحة استراتيجيّة في دول الجناح الشرقيّ للحلف فستجد موسكو نفسها معرّضة للتهديد في بضعة دقائق. وهذا ما لفت النظر إليه بوتين في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني عندما قال إنّ صاروخاً فرط صوتيّ قد يحتاج لأقل من 5 دقائق ليستهدف موسكو إذا انطلق من أوكرانيا.
استند معتنقو "ضبط النفس" في السياسة الخارجية الأميركية (restrainers) إلى تلك المحاضرة أو إلى أفكار مشابهة ليؤكّدوا صوابية خياراتهم. يتمّ التعامل مع منطق ميرشايمر كأنّه عبارة عن حسابات علميّة باردة ودقيقة، علماً أنّ صحّة توقّعاته تشجّع على ذلك. لكنّ صدق التوقّع لا يعني بالضرورة أنّ التحليل كان صحيحاً. يمكن أن يكون المحلّلون مصيبين لكن للأسباب الخاطئة أحياناً.
ما لم تفعله روسيا
كان بإمكان انضمام دول البلطيق إلى الناتو سنة 2004 أن يوفّر أسباباً كافية لروسيا كي تنتقد هذه الخطوة باعتبارها مساساً بالأمن القوميّ الروسيّ لكنّ ذلك لم يحصل. ربّما يمكن المجادلة بأنّ روسيا لم تكن تملك ما يكفي من القوّة للردّ على الخطوة الأطلسيّة أو حتى بأنّ روسيا أسقطت اعتراضها على انضمام البلطيق إلى الحلف الأطلسيّ فقط بعد هجمات 11 سبتمبر. في الواقع، يرى البعض أنّ روسيا لم ترفع الصوت بشأن توسّع الناتو شرقاً قبل 2008.
من جهة ثانية، لو كان حلف شمال الأطلسيّ يريد نشر أسلحة استراتيجيّة بالقرب من روسيا، لكان فعل ذلك في دول البلطيق. لكنّ الناتو هو منظّمة دفاعيّة بطبيعتها ولا تطبّق المادة الخامسة من المعاهدة إلّا في حال تعرّض إحدى دوله للاعتداء لا في حال كانت هي المعتدية. حتى أنّ الناتو يتفادى ضمّ دولة إلى صفوفه في حال لم تحلّ الخلافات الحدودية مع دولة أخرى.
طبعاً لا يمنع ذلك من تقديم حجّة مفادها عدم إمكانيّة الركون إلى هذه القاعدة في العلاقات الدولية. ما يكون دفاعيّاً بطبيعته اليوم قد يصبح هجومياً في المستقبل. لكنّ ذلك لا يفسّر تماماً سبب تأخّر روسيا في التلويح بورقة المخاوف الأطلسيّة. ربّما يعود ذلك إلى تغيّر نظرة روسيا للناتو بمرور الوقت. فبوتين نفسه طلب من الأمين العام الأسبق لحلف الناتو جورج روبرتسون انضمام بلاده إلى الحلف سنة 2000 على ما يرويه روبرتسون. رُفض طلب بوتين لأنّ الأخير "لم يكن يريد الانتظار في الصف" كما كانت تفعل الدول الأخرى. وقال بوتين في مقابلة إعلاميّة إنّه طلب ذلك من الرئيس الأسبق بيل كلينتون.
أفكار بوتين
ثمّة احتمال كبير جداً، وقد يكون مرجّحاً، في أنّ الغزو الروسيّ لأوكرانيا كان سيحصل في جميع الأحوال، مع أو بدون طموحها إلى العضوية الأطلسية، لأنّ بوتين لم يرَ أوكرانيا يوماً دولة كاملة الاستقلال والسيادة. لقد كتب وتحدّث عن ذلك مراراً بما لا يترك مجالاً كبيراً للشكّ. ففي سنة 2008، قال بوتين لنظيره الأميركي حينها جورج بوش الابن: "عليك أن تفهم، جورج، أوكرانيا ليست دولة حتى". وفي يونيو/حزيران 2021، كتب مقالاً في صحيفة "دي تسايت" الألمانية رأى فيه أنّ انفصال أوكرانيا عن روسيا كان مأساة. في تعليق على ذلك، استشهد الكاتب السياسيّ في موقع "ليفي بيريغ" الأوكراني ألكسندر ديمشنكو بما قاله يوماً نائب الرئيس السابق للإدارة الرئاسيّة الروسية فلاديسلاف سوركوف عن أنّ هدف روسيا جعل أوكرانيا "مملّة" للغرب، لكنّ ديمشنكو كتب أنّ هدف روسيا هو جعل الغرب ينسى أوكرانيا.
ونشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" تقريراً الأسبوع الماضي أشار إلى حديث إعلاميّ لبوتين يعلن فيه أنّ أوكرانيا "جزء لا يتجزّأ من تاريخنا ومجالنا الثقافيّ والروحيّ". كما نشرت خريطة عن أوكرانيا يقول عنها مراسلون روس إنّ معظم أجزائها "هدايا" من قبل القياصرة والسوفيات. ولم يترك هؤلاء سوى جزء صغير في جنوب وسط أوكرانيا يصفونه بأنه أراض أوكرانية حقيقية.
عودة إلى التاريخ القديم والحديث
وفي يوليو/تموز 2021 كتب بوتين في مقال مطوّل نشره موقع الكرملين باللغات الروسية والأوكرانية والإنكليزية أنّ الحدود الأوكرانيّة الحاليّة مصطنعة. وأضاف: "أوكرانيا الحديثة هي نتاج الحقبة السوفياتية بالكامل. نحن نعلم وندرك جيداً أنّه تمّ تشكيلها – إلى حدّ بعيد – على أراضي روسيا التاريخية".
وذكر بوتين أنّ الدولة الروسية التاريخية ضمّت مدينة كييف والأراضي الواقعة يسار نهر دنيبر حيث أشير إلى هذه الأراضي بكونها "مالوروسيا" أي روسيا الصغيرة وفقاً لتوضيحه. وكتب أيضاً أنّ اسم "أوكرانيا" كان يستخدم في أغلب الأحيان بمعنى الكلمة الروسية القديمة "أوكراينا"(Okraina) أي محيط (الشيء) أو حدوده الخارجية (Periphery) والذي يمكن العثور عليه في مصادر مكتوبة من القرن الثاني عشر بما يشير إلى حدود الأراضي المختلفة على ما أوضح.
حتى حين اعترف بوتين بأنّ الشعوب والمجتمعات وطموحاتها قد تتغيّر بفعل أسباب وظروف تاريخيّة، لفت إلى شروط يجب اتباعها مستشهداً بتقييم الخبير القانوني وأول عمدة لمدينة سانت بطرسبورغ أناتولي سوبشاك الذي قال سنة 1992 إنّ الجمهوريات التي أسّست الاتحاد السوفياتي والتي تخلّت لاحقاً عن معاهدة إنشائه (1922) يجب أن تعود إلى الحدود التي كانت لها قبل الانضمام إلى الاتحاد السوفياتي. تخضع جميع عمليات الاستحواذ الأخرى على الأراضي للنقاش، المفاوضات، بالنظر إلى أنّ الأرضيّة تمّ إلغاؤها بحسب ما ينقله بوتين عن رأي سوبوشاك. (شغل بوتين منصب النائب الأول لسوبشاك بين 1994 و1996).
بحسب الرئيس الروسي، ما صنعه السوفيات أوكرانيّاً مع روسيا كان واضحاً للغاية: "لقد تمّت سرقة روسيا، بالفعل". مع ذلك، ذكر بوتين أنّ روسيا اعترفت بالوقائع الجيوسياسية الجديدة وهي لم تكتفِ بمجرّد الاعتراف بأوكرانيا بل ساعدتها أيضاً على تأسيس نفسها كدولة مستقلّة وحاولت مساعدتها سياسياً واقتصادياً. لكنّ النخب الأوكرانية والغربية حوّلت تلك البلاد إلى حاجز بين أوروبا وروسيا وإلى "مشروع مناهض لروسيا" و"نقطة انطلاق" ضدّ روسيا كما قال. (انتقد بوتين أكثر من مرّة "النخب" الليتوانية-البولندية والمالوروسية بمحاولة فصل أوكرانيا عن روسيا).
ليس سبباً
وسط كلّ هذه الأفكار، يصعب القول إنّ روسيا ترى أوكرانيا كدولة ذات سيادة كاملة. يعترف بوتين بأنّ كلمات مقاله يمكن أن تقارَب بطرق مختلفة عدّة. في الواقع، كتب بوتين في الختام: "أنا واثق بأنّ السيادة الحقيقيّة لأوكرانيا ممكنة فقط عبر شراكة مع روسيا".
إنّ اعتبار شراكة دولة مستقلّة مع دولة أخرى شرطاً للاعتراف بسيادتها يناقض مفهوم السيادة نفسها. بذلك، يبدو أنّ ميرشايمر لم يكن موفّقاً حين قارن ما تعنيه أوكرانيا لروسيا بـ"مبدأ مونرو" الأميركي الذي يحظّر على أيّ دولة أوروبية أو آسيوية نشر قواعد عسكرية في الأميركيّتين. مشكلة بوتين مع أوكرانيا ليست أمنيّة بالدرجة الأولى بل تاريخيّة. والولايات المتحدة لم تستخدم المبدأ لتبرّر غزو دولة سيّدة.
ولا يبدو أنّ بوتين يميل للاعتراف بدولة أوكرانيّة مستقلّة عن روسيا مهما تكن سياستها: غربيّة أم محايدة. لا يعني ذلك أنّ أوكرانيا حياديّة ليست أقلّ "سوءاً" بالنسبة إلى المنظور الروسي من أوكرانيا "أطلسيّة"، لكنّ لبّ المسألة ليس هنا. إنّ الخوف من انضمام أوكرانيا إلى الناتو أو إلى الاتحاد الأوروبي هو معزِّز لدوافع روسيا بالتحرّك، وليس سبباً بحدّ ذاته. ربّما يقبل بوتين بأوكرانيا ذات وضع شبيه بوضع بيلاروسيا. لكن قسماً كبيراً من الأوكرانيّين يرفض ذلك، أقلّه إذا ما تمّ الاستناد إلى استطلاعات رأي (قبل أيام قليلة من الغزو) أظهرت أنّ 62% منهم يريدون الانضمام إلى الناتو (مع الاعتراف بتفاوت سياسيّ في هذه الرغبة بين وسط وغرب البلاد من ناحية وأقصى الشرق والجنوب من ناحية ثانية). ونسبة الذين يريدون الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أعلى. إنّ أوكرانيا منضمّة إلى الاتحاد الأوروبي وحسب لا تريح بوتين هي الأخرى.
علاوة على كلّ ذلك، لم يكن الغرب مستعجلاً في ضمّ أوكرانيا إلى الناتو ولا هو دفع أوكرانيا للتشدّد مع روسيا. على العكس من ذلك، كان هناك انزعاج أوكراني من تفسير فرنسا وألمانيا اتفاقية مينسك بما يخدم أكثر مصلحة روسيا. وأعرب الرئيس الأوكرانيّ فولوديمير زيلينسكي عن إحباطه حتى قبل الغزو من التلكؤ الغربيّ في استقبال أوكرانيا ضمن الحلف الأطلسيّ. قلّة من المراقبين الأوكرانيين أو الغربيّين كانت تتوقّع فعلاً اكتساب أوكرانيا العضوية الأطلسية في أي وقت منظور، أو بحسب تأكيد الأمين العام الأسبق للناتو ياب دي هوب شيفر: "ليس في أي وقت منظور أو غير منظور".
حين يعود بوتين إلى أساس كلمة أوكرانيا لاعتبارها حدود روسيا التاريخيّة، لا يترك ذلك هامشاً كبيراً لاعتبار أوكرانيا مجرّد دولة "عازلة" أو دولة "محايدة". أساس منطق ميرشايمر وآخرين بأنّ التلويح بورقة أوكرانيا الأطلسيّة هو سبب وراء اجتياح روسيا لأوكرانيا يفتقد، بالحدّ الأدنى، إلى سند أقوى.