تقترح الأدلّة أنّ روسيا تخطّط "لأكبر حرب في أوروبا منذ 1945". بعدما حشدت موسكو قواتها على الحدود مع أوكرانيا، كان الأوروبيون أكثر ميلاً للتشكيك بسيناريو الحرب الروسية. لكنّ الأميركيين كانوا يحذّرون من جدّية احتمالات الهجوم. تبنّى البريطانيون هذه القراءة أيضاً. التحذير من "أكبر حرب" أوروبية منذ 77 عاماً جاء على لسان رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون قبل أيام قليلة من انطلاق الغزو في 24 فبراير (شباط) الماضي. وتوقّع جونسون أن يشمل الهجوم محاصرة العاصمة الأوكرانية.
في مواجهة الاجتياح، احتلّت بريطانيا واجهة المساعدات العسكرية إلى كييف. قالت بريطانيا السبت إنّها ستوفر حزمة إضافية من المساعدات لأوكرانيا بقيمة 1.6 مليار دولار. وتقارب القيمة الجديدة ضعفي الالتزامات السابقة بالمساعدات. كذلك، أشارت حكومتها إلى أنّ وتيرة الإنفاق على النزاع هي الأعلى منذ غزو العراق وأفغانستان. وتشارك بريطانيا في جهود دعم الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي (ناتو).
الحركة البريطانية على الضفة الديبلوماسية لا تهدأ هي الأخرى. أجرى رئيس الحكومة بوريس جونسون زيارة لافتة ومفاجئة إلى كييف في التاسع من أبريل (نيسان) وجال مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في شوارعها المدمرة. قبل ذلك، وطّد الرجلان علاقتهما عبر تكرار اتصالاتهما الهاتفية. كما كان جونسون أول سياسي يدعو الرئيس الأوكراني إلى إلقاء كلمة أمام مجلس العموم عبر الفيديو. ورسّخت لندن سياستها عبر إطلاق تعهّد أمنيّ مع فنلندا والسويد اللتين قد تنضمّان قريباً إلى النادي الأطلسيّ.
ليس مستغرباً أن تصف "نيويورك تايمز" بريطانيا بأنّها "أكثر داعم أوروبي حماسة" لأوكرانيا. وقال زيلينسكي إنّ جونسون يساعد بلاده "أكثر" من مسؤولين آخرين. هذه السياسات والتصريحات نفسها هي التي أثارت غضب بعض الروس. اختار الإعلامي الروسي البارز دميتري كسيليوف بريطانيا ليهددها بهجوم نووي "يمحو" بريطانيا: "جزيرتهم صغيرة للغاية لدرجة أنّ صاروخ ‘سارمات‘ يكفي لإغراقها مرة واحدة وإلى الأبد".
فرصة أم تسجيل نقاط؟
شكّل الغزو الروسي لأوكرانيا فرصة لبريطانيا كي ترفع الصوت في الدفاع عن حقوق الإنسان وكي تجد لنفسها موقعاً أوسع على الصعيد الدولي. بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، كان على بريطانيا أن تبحث سريعاً عن دور لها في عالم متقلّب.
بحسب صحيفة "فايننشال تايمز"، مثّلت أوكرانيا "نجاحاً نادراً" للسياسة الخارجية البريطانية. لم يكن جونسون أول سياسي يزور أوكرانيا أو يدعمها بالسلاح، لكنّه أبدى سرعة في التفكير بضرورة "إحراق" العلاقات التي وصلت أساساً إلى الحضيض مع الكرملين. أسعفه في ذلك تأييد مختلف الأحزاب لسياسته ونجاح وزارة الدفاع في توفير الموارد العسكرية والاستخبارات في تعقّب البناء العسكري الروسي، وفقاً للصحيفة.
إضافة إلى ذلك، يبدو أنّ سياسة جونسون تتمتّع بدعم شعبيّ بريطانيّ. في استطلاع رأي حديث أجرته شبكة من الأكاديميين التابعة لـ"كلية الملك بلندن" (المملكة المتحدة في أوروبا متغيرة)، رأى البريطانيون (36%) أنّ "بريكست" عزّز سياسة لندن في الاستجابة للأزمة عوضاً عن إضعافها (26%). وأيّد 58% منهم سياسة بريطانية و53% سياسة بولونيا و50% سياسة الولايات المتحدة تجاه أوكرانيا. وكانت نسبتا تأييد البريطانيين للسياستين الألمانية والفرنسية أدنى (38% و35% على التوالي)، في إشارة إلى ميل عام لتبنّي الموقف الأكثر تشدّداً تجاه الغزو. وتدنّت أكثر نسب دعم سياسات كلّ من المجر (27%) والهند (12%) والصين (13%).
يرى بعض المشككين، ومنهم ديبلوماسيون أوروبيون، أنّ سياسات بريطانيا الأوكرانية تنبع فقط من رغبة بتسجيل نقاط سياسية لصالح خطوة "بريكست". فقد فشلت لندن بتأسيس نظام يساعد اللاجئين الأوكرانيين واستغرقت معاقبة الأوليغارشيين الروس وقتاً.
العامل الشخصي حاضر أيضاً في سياسات بريطانيا الحالية. قبل أشهر قليلة، كاد جونسون يصل إلى نهاية مسيرته السياسية بسبب اتهامات لأعضاء من حزبه بإقامة حفلات على الرغم من القيود المفروضة بسبب جائحة "كورونا". وصل الأمر ببعض المحافظين إلى دعوته للاستقالة. بشكل أو بآخر، أتاح الغزو الروسي لجونسون تنفّس الصعداء.
استعجال وطموح
تبدو بريطانيا من الدول الأكثر استعجالاً لضمّ السويد وفنلندا إلى الناتو. اتّفق الأطراف الثلاثة مؤخراً على تكثيف تقاسم المعلومات الاستخبارية وتسريع التدريبات العسكرية المشتركة. كذلك، ستزيد بريطانيا من الانتشار العسكري في كلا البلدين من أجل دعمهما في حال اندلاع أزمة أو تعرّضهما للهجوم. وقال جونسون إنّه بصرف النظر عن القرار الذي ستتخذه السويد بشأن الانضمام إلى الناتو، ستأتي بلاده لمساعدتها "بأي مطلب" تتقدم به. كان ذلك إعلاناً سياسياً أكثر من كونه معاهدة دولية بما أنّ الأمر قد يستغرق وقتاً. على الرغم من ذلك، رأت صحيفة "الغارديان" أنّ بريطانيا ذهبت في هذه الخطوة أبعد من أيّ دولة أطلسيّة أخرى على طريق ضمّ الدولتين إلى الناتو.
يريد صنّاع القرار في لندن جعل بريطانيا ذات تأثير عالميّ. لقد كان ذلك إلى حدّ بعيد سبباً من أسباب اختيار "بريكست"، لكنّه سيكون أيضاً سبباً لتأكيد صوابيّة هذا الخيار. ما تطرحه الحكومة البريطانية يبدو جريئاً، إلى حدّ المغامرة ربّما. ما قالته وزيرة الخارجية ليز تراس لمجلة "ذي اتلانتيك" يؤكّد ذلك. هي دعت "مجموعة السبع" للمزيد من التمأسس وللتحوّل إلى "ناتو اقتصادي". اللافت أيضاً أنّ تراس ترغب برؤية الحلف الأطلسيّ يؤدّي دوراً دولياً. بحسب رأيها، شعر الغرب طويلاً بالإحراج بسبب تاريخه وثروته، ويجب عليه أن يبدأ مجدداً بالثقة بنفسه. حتى الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية لم تعودا مناسبتين للغرض الذي أنشئتا لأجله كما قالت.
تحمل بريطانيا طموحات كبيرة. تمكّنُها من حشد الموارد لتحقيقها مسألة مختلفة. ضِمنَ هذه الرؤية، تقع البلاد على مسار تصادميّ مع روسيا والصين. وعلاقاتها مع الجارة الأوروبية ليست في أفضل الأحوال. توفّر أوكرانيا فرصاً بارزة لبريطانيا كي تستعيد جزءاً من تأثيرها الدولي. يبدو أنّ هذا يرضي قسماً وازناً من البريطانيين لغاية اليوم.