تكرّرت كثيراً في الآونة الأخيرة عبارة "الفَنلَنْدة" Finlandization أو تطبيق أوكرانيا لـ"النموذج الفنلندي" كحلّ مقترح للأزمة مع روسيا. تعني العبارة استنساخ أوكرانيا ما أمكن من تجربة الحياد لدى فنلندا خلال الحرب الباردة حين وقّعت الأخيرة معاهدة مع موسكو سنة 1948 أبقتها خارج "حلف شمال الأطلسي" (ناتو) كما خارج "حلف فرصوفيا". ذكرت تقارير أنّ الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون قال لنظيره الروسي فلاديمير بوتين الذي استقبله في السابع من فبراير/شباط الحالي إنّ هذا الخيار مطروح على الطاولة. نفى ماكرون استخدام المصطلح لاحقاً لكنّه تحدّث عن أهمّية هذا النموذج بصرف النظر عن التسمية.
ليس مقترح الحلّ هذا جديداً إنّما قديم قدم الأزمة بين الطرفين والتي اندلعت سنة 2014 حين ضمّت روسيا القرم ودعمت متمرّدين انفصاليين في منطقة دونباس رداً على إطاحة الرئيس الأوكراني الأسبق الموالي لها فيكتور يانوكوفيتش. لكنّ عبارة "الفنلندة" لا تلقى أصداء إيجابية في أوكرانيا.
كيسنجر كمناصر للفكرة
الديبلوماسيّ الأميركيّ هنري كيسنجر اقترح هذا الحلّ في صحيفة "واشنطن بوست" سنة 2014 بناء على وجوب أن تكون أوكرانيا "جسراً" بين الشرق والغرب. وبسبب التعقيدات في التاريخ الأوكرانيّ كما في التاريخ الأوكرانيّ-الروسيّ، دعا كيسنجر إلى عدم انضمام تلك الدولة للناتو وإلى تبنّي موقف دوليّ يُقارن بذاك الذي تبنّته فنلندا. "تلك الأمّة لا تترك أيّ شكّ حول استقلالها الشرس وتتعاون مع الغرب في جميع الميادين لكنّها تتفادى بعناية العدوانيّة المؤسّسيّة تجاه روسيا".
المشكلة الأولى التي تواجه هذه الفكرة بحسب مراقبين هي قضيّة الضمانات. المحاضر في الدراسات الاستراتيجية والعلاقات الدولية في جامعة ريدينغ الأسترالية كنتون وايت يتساءل عن نوع الضمانات التي يمكن أن توفّرها روسيا والأهمّ التي يمكن أن يصدّقها الغرب. وتوقّع أن تكون اضطرابات المواطنين من الإثنيّة الروسيّة في إستونيا وليتوانيا ولاتفيا وبولونيا وجورجيا للمطالبة بالعودة إلى الوطن الأم الخطوة البديهيّة التالية لزعزعة استقرار الناتو. بعدها، يصبح "استرضاء" روسيا قاعدةَ العمل بالنسبة إلى الغرب، وفقاً لوايت الذي قارن فرض الحياد على أوكرانيا بفرض بريطانيا وفرنسا سياسة لم تردها تشيكوسلوفاكيا تفادياً لوقوع الحرب مع النازيّة.
موقف أوكرانيا
إلى اليوم، لا تقبل أوكرانيا بالحياد أو "الفنلندة". حين كان المستشار الألماني أولاف شولتز يزور كييف، قال إنّ موضوع انضمام أوكرانيا إلى الناتو غير مطروح حالياً. كان الرئيس الأوكرانيّ فولوديمير زيلينسكي واقفاً إلى جانبه حين قال أيضاً إنّ عضوية بلاده في الحلف الأطلسيّ "حلم بعيد". حاول زيلينسكي يخفض التوتّر من خلال هذه الرسالة. مع ذلك، هو لم يقل إنّ بلاده في وارد أو مستعدة لمناقشة التخلّي عن هذا الهدف. في جميع الأحوال، إنّ انضمام أوكرانيا إلى الناتو كما إلى الاتحاد الأوروبي منصوص عنه في الدستور الأوكرانيّ منذ 2019، وقبل مجيء زيلينسكي إلى الرئاسة. وهنالك نحو 54% من الأوكرانيين يريدون العضويّة الأطلسيّة وفقاً لأحد استطلاعات الرأي في أواخر 2021.
حتى مع افتراض اقتناع الأوكرانيّين بضرورة إجراء تعديل لهذا الدستور بناء على توافق داخليّ، وهو افتراض صعب التحقّق، يتساءل بعضهم عمّا إذا كانت روسيا ستقبل بالحياد الأوكرانيّ. يؤكّد المدير المشارك لبرنامج العلاقات الخارجيّة والأمن الدوليّ في "مركز رازومكوف" الأوكرانيّ أوليكسيي ملنيك إنّ الفنلندة "غير مقبولة" لأوكرانيا: "إذا قبلتَ بأمر مفروض عليك، مثل الحياد الدائم، منطقيّاً عليك أن تحصل على أمر مقابل. إذاً ما الذي ستحصل عليه أوكرانيا في المقابل؟ على هذا السؤال، روسيا تقول لا شيء".
نتيجة عكسيّة
من جهة أخرى قد تكون "الفنلندة" عاجزة عن تأمين الازدهار والاستقرار لأوكرانيا كما أمّنتهما لفنلندا. فأوكرانيا أضعف ممّا كانت عليه فنلندا في بداية الحرب الباردة كما أنّ اقتصادها وسياستها متعثّران إلى جانب أنّ روسيا ووكلاءها يسيطرون على القرم ودونباس، كما تلفت النظر إلى ذلك مجلّة "إيكونوميست": "‘الفنلندة‘ قد تسمح لأوكرانيا بتفادي اجتياح – لكنّ الدولة ستكون بقوّة في قبضة موسكو".
إذا صحّ تحليل المجلّة البريطانيّة فهذا يعني أنّ على أوكرانيا خسائر أكثر ممّا لها من مكاسب تجنيها عبر الحياد. علاوة على ذلك، قطعت أوكرانيا شوطاً كبيراً على صعيد التطوّر العسكريّ منذ 2014 وحتى اليوم. أنفقت أميركا نحو 3 مليار دولار كمساعدات وتدريبات على الجيش الأوكرانيّ. وتمكّنت من مواجهة روسيا والمتمرّدين الموالين لها طوال ثمانية أعوام من دون تقديم تنازلات تُذكر. ربّما تفضّل كييف اليوم خسارة أهدافها عبر القتال عوضاً عمّا تراه كـ"استسلام" في الحياد المفروض عليها.
اِسألوا فنلندا!
ثمّة مشكلة أخرى في "الفَنْلَندة": فنلندا نفسها لا تتمنّاها لأوكرانيا – ولا لأيّ دولة أخرى وفقاً لتقرير جايسون هوروفيتز في صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركيّة: "اِسأل الفنلنديّين حول الساحات الثلجيّة والموانئ المتجمّدة والمقاهي ذات التصميم الاسكندينافيّ والمكتبات الحديثة في هلسينكي عن رأيهم بـ‘الفنلندة‘ وقد ينظر إليك الجيل الأكبر سناً بارتياب، والجيل الأصغر سنّاً وكأنهم يحدّقون في فراغ حيال فكرة تبدو لكثيرين أنها تنتمي إلى الماضي". فالاستقلال تحقّق عبر رقابة ذاتيّة والتخلّي عن جزء كبير من النفوذ في السياسة الخارجية.
كما اضطرّت فنلندا إلى التخلّي عن جزء كبير من مقاطعة كاريليا لصالح الاتّحاد السوفياتيّ. كذلك، اضطرّت أوكرانيا إلى إجلاء الفنلنديّين من الأراضي التي سلّمتها إلى موسكو فأحرقت بلدات برمّتها؛ كان الأمر مؤلماً لكنّه جنّب الدولتين أيّ خلافات حدوديّة أو مزاعم بحماية الأقلّيّات في الدولة الأخرى، وهو ما ليس متوفّراً في الوضع الأوكرانيّ.
"لا تذكري الكلمة"
لهذه الأسباب، وفي مقابلة مع الإعلامية في شبكة "سي أن أن" كريستيان أمانبور، قال رئيس الوزراء الفنلندي السابق ألكسندر ستاب: "لا، رجاء، لا تذكري (الكلمة)". إنّها "نقطة مؤلمة في التاريخ الفنلندي". فهي "تعني عمليّاً أنّه كان علينا التضحية والتسوية حول بعض القيم الأساسيّة التي آمنّا بها"، مثل حرّيّة الصحافة والنشر. كما رفضَ تطبيق مفهوم "الفنلندة" على أوكرانيا بالنظر إلى اختلاف تاريخ البلدين، إلّا في حال كان المفهوم يعني "ميلاً نحو الغرب". (فنلندا اليوم أطلقت شراكة للسلام مع الحلف الأطلسيّ في 1994 كما تخوض تدريبات ومهامّ مشتركة معه إضافة إلى أنّها عضو كامل في الاتحاد الأوروبّيّ منذ 1995). وقال ستاب أيضاً إنّ موسكو رفضت الاعتراف بحياد بلاده حتى فترة لاحقة من الحرب الباردة.
مدير تحرير "فايننشال تايمز" في الولايات المتحدة بيتر شبيغل يعود بالذاكرة إلى تغريدة له عن "فنلندَة" أوكرانيا سنة 2014 وقد استدعت ردوداً قوية من بينها للكاتبة في "بلومبرغ" كايتي بوهجانبالو: "أي شخص يظن أنّ ‘الفنلندة‘ عبارة إيجابية قد غفا في صفّ التاريخ..."
إذا كانت أوكرانيا رافضة للفكرة حالياً وروسيا غير قادرة أو راغبة بتقديم ضمانات، وإذا كانت فنلندا نفسها لا تريد لأوكرانيا اعتناق هذا المبدأ "المؤلم"، فسيكون من الصعب تخيّل نجاح أيّ فكرة تتعلّق بحياد أوكرانيا في المستقبل القريب... حتى ولو اقترح ماكرون تسمية أخرى للفكرة.