ثمّة شبه توافق سياسيّ حزبيّ في الولايات المتحدة على ضرورة إنهاء "الحروب التي لا تنتهي". الرئيس السابق دونالد ترامب خفّض عدد قوّاته في العراق وأفغانستان وسوريا. ووقّع اتّفاقاً مع حركة "طالبان" في شباط 2020 للانسحاب من البلاد شرط عدم تأمين ملاذ للإرهابيين. الرئيس الحاليّ جو بايدن قبِل بالانسحاب وشروطه، لكنّه ترك بصمته على الاتّفاق عبر تمديد المهلة النهائية للانسحاب التام من 1 أيار حتى 11 أيلول. يعبّر الرئيسان المتناقضان عن تيّار شعبيّ أميركيّ "مرهق" من الحروب الطويلة. أو هكذا هو التصوّر العام.
عرضت "النهار" في تقرير سابق الأرقام التي تقوّض دقّة هذا التصوّر: عدد المصابين في حربي العراق وأفغانستان هو فقط 2% من الجنود المشاركين في كلتيهما، ونصفهم أصيب بجروح طفيفة. وعدد قتلى الحربين أقلّ بثمانية أضعاف من حرب فيتنام. وفي 2019، وافق 65% من الأميركيين على انخراط الولايات المتحدة في النزاعات العسكرية الخارجية لدعم الحلفاء ومحاربة الإرهاب. وبعد حوالي سنة ونصف، لم يتغيّر كثيراً المزاج الشعبيّ.
إنهاء الحروب الأبدية ليس أولوية
لم تعكس استطلاعات الرأي اهتماماً كبيراً بين الناخبين الأميركيين لهذه القضية. منذ يومين، أشارت "نيويورك تايمس" إلى أنّ الانسحاب من أفغانستان لم يكن يوماً مطلباً شعبيّاً صارخاً للأميركيّين. بعد عشرين عاماً على تلك الحرب، يقول حوالي 45% من الأميركيين إنّها كانت خاطئة بينما لم يتدنّ الرقم عن 50% لدى من يعارضون حرب العراق وفقاً للصحيفة.
بالمقابل، وجد 60% من الأميركيّين خلال المرحلة الأخيرة من حرب فيتنام أنّها لم تكن أهلاً لخوضها. وذكر تقرير الصحيفة أرقاماً أخرى لافتة للنظر، منها معارضةُ 58% من الأميركيين سنة 2019 لانسحاب سريع ومنظّم من أفغانستان، فيما قال فقط 12% من الأميركيّين إنّهم يتابعون الأخبار المتعلّقة بالوجود الأميركيّ في تلك البلاد.
ابتعدت أفغانستان أكثر عن واجهة الأخبار الأميركيّة بعد توقيع ترامب على الاتّفاق مع "طالبان". ففي سنة 2020، لقي 10 أميركيين فقط حتفهم، من بينهم أربعة كانوا يؤدون مهمتهم القتاليّة في تلك البلاد. كان هذا الرقم هو الأدنى سنوياً منذ انطلاق العمليّات القتاليّة في تشرين الأول 2001. وسقط الجنود الأربعة قبل 29 شباط 2020، تاريخ التوقيع على الاتّفاق. لكن حتى قبل ذلك، وفي سنة 2019 على سبيل المثال، وهي السنة التي شهدت تصعيداً عنيفاً للعمليات العسكرية من قِبل "طالبان"، قُتل فقط 22 جنديّاً أميركياً (18 في عمليّات قتاليّة).
مكّن التطوران العسكريّ والطبّيّ من تخفيض عدد القتلى بشكل كبير في حربي أفغانستان والعراق. طوال قرون، كانت نسبة الجرحى إلى القتلى في المعارك 3 إلى 1. اليوم، أصبحت هذه النسبة في الجيش الأميركيّ 10 إلى 1. من جهة ثانية، اعتمدت الولايات المتحدة شكلاً جديداً للحرب ضدّ داعش في العراق وسوريا حيث أمّنت الغطاء الجوّيّ للمقاتلين على الأرض الذين تلقّوا أيضاً دعماً من قوّات أميركيّة برّيّة محدودة نسبيّاً. بفضل هذا الأسلوب، نجحت واشنطن في تقليص الكلفة البشريّة التي تكبّدتها في محاربة تنظيم "داعش". فمن 2015 وحتى 2020، فقدت واشنطن 63 عسكرياً في العراق.
كلّما انخفضت الكلفة البشريّة والمادّيّة للحروب الخارجيّة انخفض الاهتمام الأميركيّ بها. على سبيل المثال، قال 62% من الأميركيّين سنة 2007 إنّ الحرب على العراق كانت خطأ. ففي السنة نفسها، خسرت الولايات المتحدة أكبر عدد من الجنود طوال سنوات الحرب: 904. لكن منذ ذلك الحين، انخفض عدد القتلى الأميركيّين بشكل كبير وانخفض معه الاعتراض على الحرب.
تبرير ضعيف... نتيجة غير مضمونة
عندما أعلن ترامب سحب قوّاته من سوريا، انتقد بايدن خطوته واصفاً إيّاها بأنّها "خيانة لشركائنا الأكراد الشجعان" وتخفيف للضغط عن داعش، وضرب للصدقيّة الأميركيّة حول العالم. حتى أنّه انتقد ديموقراطيّين آخرين لطلبهم سحب القوّات الأميركية من الشرق الأوسط. وقال وزير الخارجية أنطوني بلينكن إنّ القوّات الأميركيّة الخاصّة في سوريا تشكّل مصدر نفوذ للولايات المتحدة. لكن يبدو أنّ الاحتفاظ بقوّات شبيهة في أفغانستان ليس ضروريّاً للمصلحة الأميركيّة وفقاً لما يُستشفّ من قرار واشنطن الأخير حيال الملفّ.
كما في "يويورك تايمس"، بيّن تقرير نشره "معهد بروكينغز" في آذار الماضي أنّ الأميركيّين غير مهتمّين كثيراً بمسألة الوجود العسكريّ الأميركيّ في أفغانستان لأنّ قسماً كبيراً منهم لم يجب عن الأسئلة المتعلّقة بالموضوع في استطلاعات الرأي، بينما الذين أدلوا برأيهم كانوا منقسمين حوله. الواضح في الخلاصة بحسب التقرير هو أنّ "النغمة الشائعة" في النقاشات بشأن أنّ "الأميركيّين يريدون الخروج" هي غير دقيقة، "ويجب ألّا يتمّ تقديمها على أنّها القوة الدافعة للانسحاب من أفغانستان". ولم يستبعد التقرير أن يكون القرار السياسيّ الرئاسيّ هو الذي يرسم الخيار الشعبيّ عوضاً عن العكس.
تطرح قرارات ترامب وبايدن حول التقليل من الانخراط العسكريّ في أفغانستان علامات استفهام كبيرة. حاول الرجلان بطريقة أو بأخرى تبرير خطواتهما عبر التذرع ولو جزئياً بتلبية مطالب شعبيّة. لكنّ استطلاعات الرأي تنقض هذه الذريعة، أو على الأقلّ، هي لا تدعمها بشكل دامغ. أكثر من ذلك، كان هنالك استطلاع رأي آخر لباحثين من "بروكينغز" نشرته "واشنطن بوست" وجد أنّ الأميركيّين يؤيّدون بقاء بعض القوّات الأميركيّة في أفغانستان.
إذا لم يكن هنالك من مطلب شعبيّ واضح لاتّخاذ قرار الانسحاب من أفغانستان، فلماذا أقدم ترامب، وخصوصاً بايدن، على خطوة فيها الكثير من المخاطرة للأمن القوميّ الأميركيّ؟ إذا كان لمواجهة الصين فالنتيجة غير مضمونة. وإذا كان من أجل حفر بايدن اسمه كرئيس تمكّن من إنهاء أطول حرب في التاريخ الأميركيّ، فمرّة أخرى، ما من ضمانات في هذا الموضوع. أوباما فعل الأمر نفسه في العراق. والتتمّة معروفة.