في بضعة أشهر، انقلبت الآية على مستوى العلاقات الأوروبية-البولونية. فقبل أزمة المهاجرين التي تسبّبت بها بيلاروسيا وفقاً للاتّهامات الصادرة عن بروكسل، كانت بولونيا مجرّد دولة تراجعت فيها القيم الليبيرالية إلى حد بعيد، وفقاً للاتّهامات الأوروبية نفسها. ليس هذا وحسب. المخاوف كانت أكبر لجهة احتمال أن تتبع بولونيا بريطانيا في مغادرتها الاتحاد الأوروبي. لهذا السبب، ساد الحديث عن "بوليكست" على طريقة "بريكست" التقارير الإعلاميّة. والمشكلة مع بولونيا كانت مزدوجة بالنسبة إلى بروكسيل.
لا تستطيع الأخيرة القبول بخسارة أخرى يتلقّاها نادي الاتحاد الأوروبي. إن كانت بولونيا أقلّ أهمّية من بريطانيا على مستوى الحضور السياسيّ والعسكريّ والاقتصاديّ، فهي أكثر أهمّيّة منها على المستوى الجغرافيّ. تشكّل بولونيا الحدود الشرقيّة للاتحاد الأوروبي مع فضاء النفوذ المتبقّي لروسيا داخل القارة الأوروبية: بيلاروسيا. إنّها عمليّاً أحد أهمّ الخطوط الفاصلة بين بروكسل وموسكو. لذلك، إنّ خسارة بولونيا ستوجّه ضربة سياسيّة كبيرة للاتحاد الأوروبي. على أيّ حال، نفى الحزب الحاكم البولوني "القانون والعدالة" نيّته الخروج من الاتّحاد. لكنّ ذلك لم ينشر الطمأنينة في بروكسل. فهي أيضاً عاجزة عن تحمّل "الشغب" الذي يمكنه أن تخلقه بولونيا داخل النادي. لذلك، كانت بولونيا عبارة عن "صداع" طويل المدى لصنّاع القرار الأوروبيين مهما يكن مصيرها السياسيّ.
"حرب هجينة"
اليوم، تبدو الصورة مختلفة. طرأت أوّل التطورات خلال فصل الصيف، عندما وصل مهاجرون من العراق وأفغانستان واليمن وحتى من الكاميرون ونيجيريا وكوبا إلى الحدود البيلاروسية محاولين اجتيازها إلى دول مثل بولونيا وليتوانيا ولاتفيا. كان هنالك 3500 محاولة لاجتياز الحدود البولونية-البيلاروسية في آب، و7700 في أيلول و 16800 في تشرين الأوّل، بالمقارنة مع 120 محاولة في 2020. بدا ذلك كافياً لإقناع الأوروبيين والبولونيين بوجود نيّة بيلاروسيّة واضحة لاستخدام المهاجرين كأداة لزعزعة استقرار أوروبا. وكانت الأخيرة قد فرضت عقوبات على مينسك بسبب تزوير الانتخابات الرئاسية التي جرت في آب 2020 وبسبب القمع اللاحق الذي مارسته بيلاروسيا ضد المعارضين المحتجّين على ذلك التزوير.
وطالت العقوبات 15 كياناً و166 فرداً من بينهم الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو ونجله ومستشاره لشؤون الأمن القومي فيكتور لوكاشينكو. ويبدو أنّ سياسة مينسك ستؤتي نتائج عكسية مع توسيع الاتحاد الأوروبي أساس فرض عقوبات إضافية على بيلاروسيا بناء على "تحويل اللاجئين إلى أداة سياسية" وشنّ "حرب هجينة" ضدّ أوروبا. كذلك، تدهورت العلاقات بين بيلاروسيا وبولونيا بسبب الانتخابات، حيث شكّلت الأخيرة ملاذاً لكثر من المعارضين البيلاروس. ورأت فرصوفيا أنّ دعمها للمعارضة البيلاروسية هو أحد أسباب "الحرب الهجينة" التي تشنّها مينسك ضدّها.
مأساة وضحايا
اتُهمت بيلاروسيا بأنّها شجّعت المهاجرين على السفر إليها قبل أن ترسلهم لاحقاً إلى الحدود مع بولونيا وأن تحضّهم حتى على مهاجمة القوى الأمنية البولونية التي سارعت فرصوفيا إلى تعزيزها على الحدود. وتنفي مينسك هذه الاتهامات، لكنها تقول في الوقت نفسه إنّ رفع العقوبات عنها قد يساهم في حلحلة الأزمة. إلى جانب ذلك، هنالك المأساة الإنسانية التي يعاني منها اللاجئون العالقون على الحدود والذين يتضورون جوعاً أو يعانون من شدّة الصقيع. حتى أنّ مهاجرَين من كوبا قالا إنّهما كانا يعيشان على شرب مياه الأنهار وأكل حبوب الذرة النيئة وينامان تحت أكوام الورق قبل أن يتمّ طردهم من القوات البولونية. وسقط ما لا يقلّ عن عشر ضحايا على الحدود.
استضافة اللاجئين... لم نعد في 2015
تصبّ هذه الأزمة في صالح بولونيا. قدرة الأوروبيين اليوم على القبول بموجة جديدة من اللاجئين باتت محدودة. فإضافة إلى رغبة بعدم تكرار سيناريو 2015 الذي دفع ألمانيا للقبول بمئات الآلاف من اللاجئين وما تلاها من تداعيات سياسية محلية وإقليمية، يفرض الوضع الاقتصادي نفسه بقوة كمانع لمعاودة تكرار هذه التجربة.
وسط النهوض الاقتصاديّ البطيء من جائحة "كورونا" وارتفاع أسعار الطاقة، لن يكون الأوروبيون مستعدّين لاتخاذ خطوات يمكن أن تغضب شعوبهم. حتى أسوج التي كانت دولة مضيافة للمهاجرين وتحمّلت إلى جانب ألمانيا عبء استضافة المهاجرين لم تعد كذلك اليوم وفقاً لتقرير أعدّه الكاتب جايمس تروب في مجلّة "فورين بوليسي". علماً أنّ الكاتب كان يعدّ تقريره بناء على أنّ أسوج لا تزال راغبة بتشكيل هذا النموذج المضياف، قبل أن يتفاجأ خلال اتصالاته وقراءاته أنّ الأمر تغيّر.
رسائل تضامن
مع انعدام أو ضآلة الرغبة الأوروبية باستضافة المزيد من اللاجئين، تحوّلت بولونيا من دولة متمرّدة على قيم الليبيرالية إلى "حصن" للاتحاد الأوروبي وحتى حلف شمال الأطلسيّ (ناتو). منذ أسبوع، زار رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال فرصوفيا للإعراب عن دعمه لها. وشكر وزير الداخلية الألماني هورست زيهوفر نظيره البولوني على "حماية حدودنا الخارجية المشتركة" حتى أنّه عرض نشر عناصر من الشرطة الألمانية لمساعدة الحرس الحدودي البولوني.
هذه الرسالة الألمانية مفهومة بالنظر إلى تمكّن 2400 مهاجر من العبور إلى ألمانيا في تشرين الأول وحده. ويقول مستشار شؤون الهجرة في ألمانيا جيرالد نوس إنّ بلاده "تشعر بالعجز" فـ"عدد الأشخاص الذين قدموا عبر الحدود حيث، في الأوقات العادية، لا (يتم تسجيل عبور) مهاجرين غير شرعيين بأي أرقام تذكر (...) هذا العدد يخلق قلقاً أكبر هنا ممّا (يخلقه) العدد الأكبر الذي يعبر المتوسّط". وأضاف أنّ هنالك شعوراً أوروبياً بقدرة "لوكاشينكو وحده على تحديد كم شخص يأتي" إلى هنا.
لا يعني كلّ ذلك أنّ الأمور ستعود إلى طبيعتها بسهولة بين فرصوفيا وبروكسيل. فالأخيرة لا تستطيع تجاهل خرق الأولى لمفهوم "سيادة القانون الأوروبي" على القوانين الخاصة، كما رفضت فرصوفيا مساعدات مالية من الثانية بسبب خلافاتهما على جبهات سياسية أخرى. لكن لا بدّ للقضيّة المشتركة من أن تجمع الطرفين حول تسوية ولو موقّتة، خصوصاً إذا طالت الأزمة.