النهار

أوكرانيا الأوروبية لا الأطلسية هاجس بوتين؟
A+   A-

عرضت "النهار" أمس في تقرير بعنوان "مشكلة بوتين ليست ‘خطر‘ أوكرانيا الأطلسي؟" مجموعة من العوامل التي تفسّر احتمال عدم فرض توسّع حلف شمال الأطلسي تهديداً كبيراً على أمن روسيا. بالتالي، إنّ انضمام أوكرانيا إلى الحلف لا يشكّل هاجساً أساسيّاً لصنّاع القرار في موسكو، أو على الأقل ليس الهاجس الوحيد وربّما ليس الأهم حتى. بحسب أكثر من مراقب، ثمّة سبب آخر يدفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى التصعيد على الحدود مع أوكرانيا. لا يرتبط هذا السبب بالتطوّر العسكري الذي شهدته كييف منذ 2014، ولا حتى بتطبيق اتفاقية "مينسك 2" التي يمكن أن تمثّل وسيلة نحو غاية معيّنة بدلاً من أن تكون غاية بحدّ ذاتها.

"بحسب وجهة نظري، ليس بوتين خائفاً حقاً من انضمام أوكرانيا إلى الناتو، والذي أوضحت الولايات المتحدة أنّه ليس بين الأوراق حالياً". هذا ما أورده الكاتب السياسي في صحيفة "نيويورك تايمس" توماس فريدمان في مقاله الأخير. "عوضاً عن ذلك، خوف بوتين هو أن تصبح أوكرانيا غربية... هو يخشى أن تنضمّ أوكرانيا إلى الاتّحاد الأوروبي". وأضاف أنّه لم يكن من قبيل الصدفة ضمّ روسيا القرم خلال توقيع بروكسل وكييف اتفاقاً جديداً لتعزيز أواصرهما السياسية والاقتصادية في 21 آذار 2014.

ومع أنّ فريدمان يتمنى أوكرانيا محايدة لا أطلسية، يتابع: "لا، أزمة أوكرانيا لم تكن قط محصورة بخوف بوتين من توسّع قوات الناتو إلى حدود روسيا. لم تكن حتى قريبة (من هذا السبب). خوفه الأعظم هو تمدّد فضاء نفوذ الاتحاد الأوروبي واحتمال أن يساعد ذلك على ولادة أوكرانيا ودية، ديموقراطيّة، وذات سوق حرّة تقول كلّ يوم للشعب الروسي: ‘هذا ما يمكن أن تكونوا عليه من دون بوتين‘".

 

مرحلة وسيطة

ثمّة نقطة لافتة في آليّة انضمام الدول الأوروبية إلى الاتّحاد الأوروبي. فمع كلّ موجة توسيع للكتل الغربيّة أعقبت نهاية الحرب الباردة، أصبحت دول أوروبا الشرقية والوسطى دولاً أطلسيّة قبل أن تنضمّ لاحقاً إلى الاتّحاد الأوروبي. بمعنى آخر، كان الحلف الأطلسي مرحلة انتقالية لهذه الدول على طريق تحوّلها إلى دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي. ليس غريباً أن يكون طموح الدول الأوروبية بعضوية الاتحاد أكبر من طموحها بعضوية الناتو. فحتى سنة 2008 على الأقل، السنة التي شهدت حرباً روسية سريعة في جورجيا (أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية) كان من الطبيعي أن يطغى الهاجس الاقتصادي على الهاجس الأمني بالنسبة إلى الدول الأوروبية.

وجميع طلبات الانضمام إلى الحلف الأطلسي بدأت قبل ذلك التاريخ، باستثناء طلب مونتينيغرو (2009) والتي انضمّت إلى الناتو رسمياً في 2017. وهي لا تزال تنتظر قبولها في الاتحاد الأوروبي. وأصبحت ألبانيا أيضاً (وهي عضو أطلسي منذ 2009) مرشحاً رسمياً في 2014 كي تصبح عضواً في الاتحاد الأوروبي. لهذا السبب، يعتقد البعض أنّ منع أوكرانيا من الانضمام إلى الناتو يعني أنّ احتمالات انضمامها إلى الاتحاد تصبح أكثر تضاؤلاً.

 

"سيناريو كابوسي"

إنّ فكرة تخوّف بوتين الأساسي من عضوية أوكرانيا في الاتحاد الأوروبي لا في الحلف الأطلسي وجدت أكثر من مؤيّد لها، خصوصاً عندما تعني هذه العضوية تجذّراً للديموقراطية الأوكرانية. يذهب البعض أبعد من ذلك، ليشير إلى أن بوتين يريد إقناع الغرب بهواجسه من الحلف الأطلسي، لكنّ ذلك هو مجرد "دعاية سياسية". هذا ما كتبه المستشار السابق لحملة باراك أوباما الانتخابية دايفد تافوري في صحيفة "ذا هيل" الأميركية. ما يسعى إليه الرئيس الروسي هو تعزيز احتمالات الحفاظ على سلطته وتفادي جاذبية المتحدّين الديموقراطيين لـ"رئاسته الأبدية". وأضاف: "لم يشكّل الناتو قط تهديداً حقيقياً لتفوّق بوتين داخل روسيا. لكنّ الديموقراطيّة التي يمكن أن تعمل بشكل جيد على حدود روسيا، والتي يمكن أن تلهم حركات ديموقراطية جديدة داخل روسيا، ستفعل ذلك".

بيتر ديكينسون من "المجلس الأطلسي" يبدي رأياً مشابهاً: "يدرك (بوتين) أنّه مع نضوج الديموقراطية الأوكرانية وترسخها، ستلهم حتماً مطالب بتغيير مماثل داخل روسيا نفسها وتخدم كتهديد متزايد لنظامه الأوتوقراطي الخاص". من هنا، "إنّ بروز أوكرانيا أوروبية يبدو كنذير سوء مثل المرحلة التالية من سيناريو كابوسي يمتدّ رجوعاً حتى سقوط جدار برلين".

وينتقد ديكينسون الكلام عن احتمال نشر الناتو أسلحة متطوّرة في أوكرانيا، مع تعرّض الحلف لانتقادات بسبب منعه أسلحة دفاعية أولية عن كييف. وأوضح أنّه لو كانت هذه نيّة الناتو، لكان نشر تلك الأسلحة في دول البلطيق المجاورة منذ 2004، أي حين أصبحت دولاً أطلسية.

 

"أستطيع قول ما لا يستطيعه الحلف"

ثمّة عامل يدفع كثراً من المراقبين الغربيّين إلى استغراب خوف بوتين من انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي. فهذه العضوية بحسب رأيهم مستحيلة حتى ولو لم يكن الغرب قادراً على إعلان ذلك. يؤكّد حديث صادر مؤخراً عن الأمين العام الأسبق للناتو ياب دي هوب شيفر هذا التوجّه: "الجميع، بمن فيهم بوتين، يعلمون أنّ أوكرانيا لن تصبح عضواً في الناتو خلال المستقبل المنظور وغير المنظور. هي أصلاً دولة عازلة. إنّه أمر لن تسمعه من الأمين العام (الحالي) للناتو ينس ستولتنبرغ؛ موقعه لن يسمح له. لكنّني أستطيع قول ذلك الآن".

مع ذلك، لم تكن مخاوف روسيا بشأن توسّع الناتو جديدة. هي تعود إلى التسعينيات كما اعترف ديكينسون نفسه. إن توسّع الحلف الأطلسي في أوروبا، بصرف النظر عن طبيعته وأهدافه، يصبّ في إطار الصراع الكلاسيكي للقوى العظمى ضمن المدى الذي تراه الأخيرة "حيوياً" بالنسبة إليها. ترى روسيا أنّه يحق لها، كما يحق للولايات المتحدة، بـ"مبدأ مونرو" خاص بها. لكنّ الخلاف هو حول أولويّة التوسّع الأطلسي على قائمة الهواجس الروسية. هل هو يحتل المرتبة الأولى أم مراتب ثانويّة أمام الهاجس من "دَمَقْرَطة" أوكرانيا؟ من المرجّح ألّا يعرف المراقبون الجواب بدقّة. المؤكّد أنّ أبعاد الأزمة حول أوكرانيا متعدّدة ومتشابكة.

 

اقرأ في النهار Premium