لا تزال أنظار المهتمين بمسار انضمام كل من فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي شاخصة إلى الموقف التركي المتحفّظ تجاه هذا المسار. بعد صلاة الجمعة الأسبوع الماضي، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمام مجموعة من المراسلين إنّه "ليس لدينا رأي إيجابيّ" حيال انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو. عزا ذلك إلى "الخطأ" الذي ارتكبته الدولتان بقبول اليونان في الحلف وبإيوائهما "إرهابيين من ‘حزب العمال الكردستاني‘". وأبدت تركيا في السابق اعتراضها على استضافة الدولتين مناصري الداعية فتح الله غولن الذي تتهمه بالوقوف وراء الانقلاب الفاشل شهر يوليو (تموز) 2016.
يوم السبت، انعقد اجتماع وزاريّ أطلسيّ في برلين لمناقشة هذه المسألة. كان من المتوقّع أن تهدأ التصريحات التركيّة ريثما يتمّ إيجاد صيغة تنهي هذا التباين. على العكس، سادت أجواء متشنّجة. رفع وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو نبرة صوته في وجه نظيرته السويدية آن لينده في ما قال ثلاثة ديبلوماسيين لوكالة "رويترز" إنّه خرق "محرج" للبروتوكول، منتقداً سياستها "النسويّة". لكنّ مسؤولاً ديبلوماسياً تركياً قال للوكالة نفسها إنّ جاويش أوغلو حدّد موقف تركيا باحترام رافضاً ما وصفها بمزاعم لينده عن أن سبب المعارضة التركية هو السياسة الخارجية النسوية للسويد.
يوم الاثنين، كرّر أردوغان تحفّظه على انضمام الدولتين إلى الحلف مستخدماً نبرة أعلى. وقال إنّ على الوفدين الفنلندي والسويدي "عدم إزعاج نفسيهما" بالمجيء إلى أنقرة للتفاوض حول الموضوع، مكرّراً اتّهامهما بإيواء "إرهابيين". ويوم الأربعاء، التقى سفراء الناتو بهدف افتتاح مناقشات الانضمام في الوقت نفسه الذي تقدّمت خلاله الدولتان بالطلب، لكنّ معارضة تركيا أوقفت التصويت وفقاً لما نقلته صحيفة "فايننشال تايمز" عن شخص وصفته بالمطّلع.
من تسليم معارضين إلى مقاتلات "أف-16"
من بين المطالب التي ترفعها تركيا في هذا السياق، توقّف هاتين الدولتين عن "إيواء إرهابيين" من "حزب العمال الكردستاني" وتسليم عدد من المعارضين الأتراك ممّن هم على صلة بالداعية فتح الله غولن. لكنّ الزميل البارز في "مجلس العلاقات الخارجية" ستيفن كوك يرى في حديث إلى مجلة "فورين بوليسي" أنّ هنالك ما هو أبعد من قضية المعارضين الأتراك. يبدو أنّ هنالك المزيد من المعارضة في الكونغرس الأميركي لحصول تركيا على مقاتلات "أف-16". كان من المفترض أن تحصل تركيا على هذه المقاتلات كجائزة ترضية بعدما تمّ فصلها عن برنامج تصنيع وحيازة المقاتلات الأحدث من طراز" أف-35" وكمكافأة على تقديم دعم عسكريّ محدود لكن فعّال لأوكرانيا من خلال بيع مقاتلات "بيرقدار تي. بي.2" للجيش الأوكراني.
تمّ طرد تركيا من الكونسورتيوم الدولي لبناء مقاتلات "أف-35" بسبب شراء منظومة "أس-400" الروسية على الرغم من التحذيرات والضغوط الغربية. تخوّف الغرب من قدرات المنظومة الصاروخية على اختراق الأنظمة الإلكترونية للـ"أف-35" والحصول على معلومات جوهرية عنها. كان من المفترض أن تؤمّن تركيا قرابة 900 مكوّن للجيل الأحدث من المقاتلات الأميركية، مع تقديرات بأن تكسب الخزانة التركية نحو عشرة مليارات دولار من المشروع. بذلك، تعرّضت أنقرة لخسارة اقتصادية كبيرة بعد العقوبات، إلى جانب خسارتها عقداً لشراء مئة مقاتلة من هذا النوع.
غموض في الكونغرس
اليوم، تجد تركيا فرصة للتعويض عبر شراء مقاتلات أف-16. في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تقدّمت تركيا بطلب لشراء 40 مقاتلة من هذا الطراز و80 مجموعة لتحديث أسطولها الذي يعود إلى ثمانينات القرن الماضي. تبلغ قيمة العقد نحو 6 مليارات دولار. لم تلقَ تركيا جواباً سريعاً من الأميركيين حينها. في الرابع من مايو (أيار) الحالي، ذكر موقع "ديفنس نيوز" أنّه "إذا لعبت (تركيا) أوراقها بشكل صحيح، فسيكون بإمكان الحليف في الناتو أن يقنع الكونغرس" بالسماح بإتمام هذا العقد. وأعلن عدد من المشرّعين الأساسيّين الذين لعبوا دوراً بارزاً في طرد تركيا من برنامج "أف-35" أنّهم قد يميلون للموافقة على طلب تركيا بعدما اقترحت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن أنّ هذا البيع يمكن أن يخدم مصالح الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.
من المرجّح ألّا يكون قرار الرفض التركيّ نهائيّاً. وهذا ما قاله مسؤول تركيّ لصحيفة "فايننشال تايمز". لكن ليس واضحاً ما إذا كانت تركيا تلعب فعلاً أوراقها بشكل صحيح مع استغلالها وقتاً حسّاساً من أجل تشكيل رافعة لمطالبها، خصوصاً إذا كان بالإمكان إجراء تفاوض حول المطالب التركية بشكل منفصل. وقالت لينده يوم السبت إنّ بلادها، كما سائر الدول الأوروبية، تعتبر "حزب العمال الكردستاني" منظمة إرهابية. وتطالب تركيا أيضاً برفع الدولتين حظر الصادرات العسكرية الذي فرضتاه عليها بعد شنّها توغّلاً عسكرياً في شمال سوريا سنة 2019.
وجدت تركيا أنّ هذا التوقيت يسمح لها بانتزاع تنازلات من ستوكهولم وهلسينكي وواشنطن معاً، أو على الأقلّ من واحدة من هذه العواصم. لكنّ هذا التوقيت قد يثير غضب المشرّعين ويبدّد الصورة الإيجابية التي رسمتها تركيا في أذهان الغربيين خلال الشهرين الماضيين بفعل دعمها أوكرانيا عسكرياً وعملها على حلّ النزاع ديبلوماسياً عبر استضافة جولتين من المفاوضات بين كييف وموسكو.
علاقة مع روسيا؟
إنّ المؤشّرات إلى ميل إيجابيّ في الكونغرس لبيع مقاتلات أف-16 إلى أنقرة لم يكن نهائياً بحسب "ديفنس نيوز". علاوة على ذلك، قد يكون الخوف الأكبر من إمكانيّة تفاوض أردوغان مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لرؤية ما يمكنه الحصول عليه في حال وافق على إبقاء الدولتين الشماليتين خارج الناتو. كانت تركيا وروسيا قد اتّفقتا على شراء دفعتين جديدتين من منظومة "أس-400" كجزء من العقد الأساسي، لكنّ المحدثات حول نقل التكنولوجيا أدّت إلى تمديد وقت تسليم الدفعة الثانية، وفقاً لما أعلنه رئيس إدارة الصناعات الدفاعية اسماعيل دمير أواخر أبريل (نيسان) الماضي. يبدو أنّ تركيا تحاول الانخراط في لعبة شدّ حبال مع روسيا والغرب في آن، لترى ما يمكن انتزاعه منهما. لن يرسل ذلك مؤشّرات إيجابية إلى كلّ صنّاع القرار الأميركيين، ومنهم المشرّعون على وجه الخصوص.