مطلبُ الأميركيّين بإعادة قوّاتهم إلى بلادها بعد عشرين عاماً من الحرب في أفغانستان كان واضحاً. مع ذلك، ثمّة ملاحظة أساسيّة: هذا المطلب كبير لكنّه لم يكن كاسحاً أو محتلّاً الأولوية على قائمة اهتمامات الأميركيين بحسب ما يصوّره كثر. ففي السنوات الأخيرة، وبفعل تضاؤل عدد الإصابات في صفوف القوّات الأميركية بشكل بارز، بالكاد كانت أفغانستان تشكّل مصدر اهتمام بالنسبة إلى الأميركيّين.
خلال مقابلة مع صحيفة "نيويورك تايمس" نشرتها في 15 نيسان الماضي، قال أستاذ مادة الشؤون الدولية في جامعة كولومبيا والباحث في مجلس العلاقات الدولية ستيفن بيدل: "لا مسيرات شموع إلى البنتاغون حول أفغانستان. لا أحد يرمي حقائب من الدماء المزيّفة على ضباط الجيش". كان بيدل يظهر التناقض بين الاهتمام الأميركي لإنهاء الحرب في فيتنام وإنهائها في أفغانستان. وأشارت الصحيفة إلى استطلاع رأي أجرته "أسيوشييتد برس/نورك" السنة الماضية وجد أنّ 12% من الأميركيين فقط كانوا يتابعون الأخبار في أفغانستان عن كثب. مع ذلك، لا يمكن إنكار وجود رأي عامٍ مؤيّد إجمالاً لفكرة الانسحاب.
فحين أعلن الرئيس الأميركي أنّه ينوي سحب قوّاته من أفغانستان قبل أربعة أشهر، كانت استطلاعات الرأي تظهر التوجه نفسه لدى المواطنين، وحتى ولو اختلفت الأرقام. بحسب "مورنينغ كونسالت/بوليتيكو"، أيّد 69% من الأميركيين هذا الخيار. وبحسب "يوغوف/إيكونوميست" وافق 58% وعلى قرار بايدن. لكنْ ثمة أسباب وجيهة اليوم لتوقّع تغيير قسم من الأميركيين قناعاته بشأن هذا الموضوع.
خمسة أسباب على الأقل
على الأرجح، لم يكن الشعب الأميركيّ يريد رؤية انسحاب فوضويّ بهذا الشكل: سحب 2500 جنديّ، ثمّ إرسال 5000 لإتمام العمليّة. هذا من جهة أولى. من ناحية ثانية، وعد بايدن الأميركيّين بأنّ مشاهد سايغون لن تتكرّر أي أنّهم لن يروا مجدّداً مروحيّات تنقل ديبلوماسيين أميركيين من على سطح السفارة الأميركية. لكنّ هذا ما حصل بالضبط. ثالثاً، قال بايدن منذ ستة أسابيع، إنّ احتمال سيطرة حركة "طالبان" على كلّ البلاد "مستبعد جدّاً". لكنّ سرعة نجاح "طالبان" بدخول القصر الرئاسيّ في كابول نسفت تصريح بايدن من أساسه.
رابعاً، لا شكّ في أنّ الصور والفيديوهات التي انتشرت على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعيّ والتي تظهر مواطنين أفغاناً يسقطون من طائرة الإنقاذ تركت انطباعاً سلبياً جداً. وعلاوة على كلّ ذلك، لم يعرب بايدن في خطابه التوضيحيّ الذي توجّه به إلى الشعب الأميركيّ يوم الاثنين عن أيّ ندم تجاه ما حصل، وبدلاً من ذلك، راح يوجّه اللوم إلى أطراف عدّة بدلاً من تحمّل ولو جزء من المسؤولية كما تعهّد خلال حملته الانتخابية.
تراجعٌ... لكن ما حدوده؟
بدأت استطلاعاتٌ تظهر تغيّراً في توجّهات الرأي العام الأميركيّ. على سبيل المثال، أشارت "بوليتيكو/مورنينغ كونسالت" التي أجرت استطلاعها بين 13 و 16 آب إلى أنّ الأميركيّين لا يزالون يؤيّدون خطوة بايدن. لكنّ هذا التأييد تراجع 20% منذ نيسان، من 69% إلى 49%. مع ذلك، قال فقط 38% من الديموقراطيين إنّ انسحاب الجنود الأميركيين يجري بطريقة جيدة مقابل 14% من الجمهوريين.
وأصدر استطلاع رأي لـ"جون زوغبي استراتيجيز" أجرته يوم الاثنين نتيجة مماثلة لـ"بوليتيكو/مورنينغ كونسالت" حيث أيّد 49% من الأميركيين قرار بايدن في مقابل معارضة 37%. ووجدت مؤسّسة "داتا فور بروغرس" بين 13 و 16 آب أنّ 51% يؤيّدون قرار بايدن مقابل معارضة 37%. لكن تجدر الإشارة إلى أنّ قسماً من استطلاعي "داتا فور بروغرس" و"بوليتيكو/مورنينغ كونسالت" أجري قبل تصدّر أخبار الفوضى المشهد الأميركيّ.
غموض
من جهتهما، أجرت "رويترز/إيبسوس" استطلاع رأي الاثنين وجد أنّ 46% من البالغين الأميركيين أيّدوا أداء بايدن الإجماليّ في البيت الأبيض. إنّه الرقم الأدنى في استطلاعات رأي المجموعة منذ بدأت في كانون الثاني. البارز أنّ هذا الرقم سجّل انخفاضاً بنسبة 7% عن استطلاع رأي أجري مماثل أجرته المجموعة نفسها يوم الجمعة.
كذلك، أجرت "إيبسوس" استطلاع رأي سريعاً منفصلاً الاثنين وجد أنّ بايدن نال التقييم الإيجابيّ الأدنى بالمقارنة مع الرؤساء الثلاثة السابقين في إدارة الملفّ الأفغانيّ. بحسب الأرقام، يبدو الأميركيّون غير حاسمين لرأيهم. على سبيل المثال، وافق 68% من المستطلعين على أنّ الحرب "كانت ستنتهي بشكل سيّئ، بصرف النظر عن توقيت مغادرة الولايات المتحدة" بينما أراد 61% إنهاء واشنطن انسحابها وفقاً للجدول المعلن. مع ذلك، وافق 51% على "أنّه كان من المجدي ترك القوات في أفغانستان لسنة أخرى" وأراد 50% إعادة إرسال القوات الأميركية إلى البلاد لمحاربة "طالبان".
يبقى أنّ المؤسّسة الوحيدة التي وجدت في استطلاعها معارضة كبيرة لقرار الرئيس هي "مجموعة ترافالغار" المقرّبة من الجمهوريّين التي ذكرت أنّ 69% من الأميركيين يعارضون قرار بايدن. حتى غالبية الديموقراطيين معارضة لقراره بحسب المجموعة نفسها. وسطع نجم "مجموعة ترافالغار" في 2016، حين كانت الوحيدة التي توقّعت فوز ترامب في ولايتي بنسلفانيا وميشيغان المتأرجحتين.
الخلاصة
يبدو أنّ غالبية أميركيّة ضئيلة لا تزال تؤيّد قرار بايدن. لكنّ هذا التأييد غير صلب. يمكن القول إنّ الالتباس السياسيّ يسيطر على الرأي العام الأميركيّ تجاه هذه القضيّة. على سبيل المثال، وحين سألت "بوليتيكو/مورنينغ كونسالت" الأميركيين عمّا إذا كان يجب على واشنطن سحب قوّاتها من أفغانستان لو أمّنت "القاعدة" ملاذاً آمناً لها في البلاد، عارض 48% من الأميركيين الانسحاب في مقابل تأييد 35%.
بطبيعة الحال، ثمّة حاجة إلى المزيد من استطلاعات الرأي في الأيّام المقبلة. مع ذلك، قد لا يكون بالإمكان قياس توجّه واضح ومستقرّ لدى الرأي العام الأميركيّ. فالأمر يعتمد على حجم وطريقة تغطية الإعلام لهذه القضيّة. يرى المستطلع جون زوغبي أنّ استمرار حدّة التغطية لأحداث أفغانستان كما كانت خلال الساعات الـ72 الماضية، يمكن أن يؤذي رئاسة بايدن.
مع ذلك، ثمّة أمر مؤكّد. شعبيّة بايدن تتراجع بشكل ثابت منذ كانون الثاني. وتراجعت بحدّة أكبر في الأيام القليلة الماضية. فبين 14 و 17 آب، وجد استطلاع لـ"إيكونوميست/يوغوف" أنّ التأييد الشعبيّ لأداء بايدن الرئاسي متعادل: 47% مؤيّد و47% معارض. لكن بين 7 و 10 آب، أظهر الاستطلاع نفسه أنّ نسبة التأييد كانت تفوق نسبة المعارضة: 47% مقابل 45%.
مؤسّسة "راسموسن" أجرت استطلاع رأي في 18 آب وجد أنّ 54% من الأميركيين معارضون للرئيس و 46% مؤيّدون له. بينما كانت نسبة المعارضة يوم الجمعة الماضي 52% مقابل 47% من التأييد.
تأثّرت شعبيّة بايدن سلباً بسبب قراره الأفغانيّ. قد تصطلح الأمور أو تتدهور أكثر بالنسبة إلى الرئيس الأميركي بحسب منحى الأحداث في أفغانستان. لكنّ هذا الملفّ ليس مشكلة بايدن الوحيدة. فالشعب الأميركيّ يواجه ارتفاعاً في نسبة التضخّم وفي الإصابات بفيروس "كورونا" كما يواجه أزمة مهاجرين على الحدود الجنوبية. وهي عوامل تدفع شعبيّة بايدن إلى التآكل المستمرّ.