كسرت فنلندا والسويد عقوداً إن لم يكن قروناً من الحياد. اختارت الدولتان الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) ومن المتوقّع أن يكون مسار قبولهما سريعاً جداً في حال لم تواصل تركيا عرقلة ذلك. انقلب المزاج الشعبي العام في الدولتين بوقت قياسيّ بعد انطلاق الغزو الروسي لأوكرانيا. صادق مجلس النواب الفنلندي على الانضمام إلى الناتو بغالبية ساحقة: 188 من أصل 200 نائب، علماً أنّ هذه الأكثرية بلغت 121 نائباً منذ أسابيع قليلة.
وفي السويد، ارتفعت نسبة مؤيّدي الانضمام من 37% في كانون الثاني إلى 58% في أيار. أمّا في فنلندا، فتصاعدت النسبة بوتيرة أسرع فتخطّت 75%. يعود هذا الأمر على الأرجح إلى أنّ فنلندا محاذية لروسيا، وقد خاضت معها (الاتحاد السوفياتي) حرب الشتاء سنة 1939. انتهت الحرب بفقدان فنلندا 10% من أراضيها والتزامها الحياد في الأحلاف الخارجية. أيقظت مشاهد الحرب في أوكرانيا ذكريات سيئة لدى الفنلنديين فوافقوا بغالبية كبيرة على الانضمام إلى الناتو. ولهذه الموافقة رمزيتها الخاصة.
"الفَنْلندة"
قبل انطلاق الغزو، طالب كثر بـ"فنلندة" أوكرانيا، أي بتبنّي كييف نموذج الحياد الفنلنديّ والتوقّف عن المطالبة بالانضمام إلى الحلف الأطلسيّ. وبعد اجتياز الدبابات الروسية الحدود الأوكرانية، رأى مراقبون أنّ عدم قبول أوكرانيا بالحياد هو الذي استدعى الحرب عليها. لم تكن تلك الفكرة بلا نقاط ضعف لثلاثة أسباب على الأقل: من ناحية أولى، لم يتوقّع أحد انضمام أوكرانيا إلى الحلف في المستقبل القريب وحتى البعيد. ثانياً، لم تُرد فنلندا نفسها التي أكسبت المطالبات بالحياد الأوكرانيّ اسمها الرسميّ تبنّي كييف هذه السياسة. ثالثاً، ردّ البعض على فكرة "الفنلندة" قائلين إنّ أوكرانيا كانت محايدة بحكم الأمر الواقع طوال العقدين الماضيين.
تؤكّد سياسة فنلندا والسويد اليوم النظريّة الأخيرة. لو كان الحياد يحمي هاتين الدولتين من الغزو الروسيّ، أو على الأقلّ لو كان هذا التصوّر سائداً بين مواطنيهما لما طالبتا بالانضمام إلى الناتو. نظريّاً، توجّب على فنلندا والسويد "عدم استفزاز" روسيا بحسب تحليل محمّلي التوسّع الأطلسيّ مسؤوليّة الحرب على أوكرانيا أو حتى مسؤولية زيادة التوترات بين الغرب وروسيا.
"مخاطرة"
لقد وسّعت هلسينكي وستوكهولم التماس بين حدود روسيا والناتو بنحو الضعفين، حيث تبلغ الحدود المشتركة بين فنلندا وروسيا قرابة 1300 كيلومتر، وهي أكبر من مجموع طول الحدود السابقة بين الطرفين. وسيساهم نجاح انضمامهما إلى الحلف في سيطرة الناتو على ضفّتي بحر البلطيق الذي تستخدمه روسيا كممر أساسيّ للوصول إلى بعض مدنها الكبيرة. وتملك السويد بحريّة قوية كما تبني مقاتلاتها الخاصة التي تصدّرها إلى دول العالم، بينما لفنلندا جيش مموّل جيّداً ويحافظ على التجنيد الإجباريّ. وسيساهم هذا الانضمام في تعزيز أمن دول البلطيق التي تعدّ من أكبر داعمي أوكرانيا إذا ما قيست المساعدات العسكرية والمالية بحجم ناتجها القومي. في الوقت نفسه، سيترسّخ أكثر موقع الناتو في الدائرة القطبية الشمالية مع ضمّ السويد وفنلندا، وهما دولتان منتميتان لـ"مجلس القطب الشمالي".
يترك التاريخ بشكل متفاوت تصوّرات خاصّة عن المخاطر في الوعي الجماعيّ للشعوب والحكّام عند صناعة القرار. إذا كانت أوكرانيا قد شكّلت إحدى بوّابات الغزو النازيّ للاتحاد السوفياتي في الحرب العالمية الثانية، فالسويد أيضاً حاولت اجتياح روسيا القيصريّة منذ قرابة 300 عام لكنّ حملتها انتهت بالفشل. لذلك، قد يمثّل انضمام السويد إلى الناتو رمزيّة سلبيّة في مسوكو.
تظهر هذه المؤشّرات والنتائج المرتقبة أنّ الدولتين "خاطرتا" بإثارة حفيظة موسكو بالحدّ الأدنى. لكنّ تلك المخاطرة لم تمنعهما من اتّخاذ القرار. يعكس الأخير تغييراً في فهم الدولتين لأمنهما وأمن روسيا معاً.
طوال السنوات التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية، مال الفنلنديون والسويديون إلى احترام المصالح الأمنية الروسية كما حدّدها الكرملين لأنّهم عرفوا أنّ الانضمام إلى الناتو سيثير ارتياب موسكو من جهة ولأنّهم لم يعتقدوا أنّهم بحاجة لحماية الناتو طالما أنّ العلاقات مع الكرملين بقيت هادئة. علاوة على ذلك، كان النقاش الداخلي حول هذه الخطوة سريعاً ممّا عكس نوعاً من الثقة بصوابية وربما بداهة خيار كلتا العاصمتين. التيقّن من صحّة هذا الخيار متروك للمستقبل، لكن لغاية اليوم، لم يصدر عن روسيا ردّ فعل بحجم التغيّر الاستراتيجيّ الذي يطرأ على الحدود الشمالية الغربية للبلاد.
لماذا جاء الردّ فاتراً نسبياً؟
تتصرّف روسيا مع تحرّك سريع وعمليّ لانضمام فنلندا والسويد إلى الناتو بخلاف ما تصرّفت مع أوكرانيا التي بدا انضمامها إلى الحلف معلّقاً إلى أجل غير مسمّى. قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الاثنين إنّه ما من تهديد لروسيا في انضمام الدولتين إلى الناتو. لكنّه حذّر من ردّ في حال تعزيز الحلف بنيته التحتية في الدولتين. وصفت "رويترز" كلام بوتين بأنّه "هادئ على غير المعتاد". لا يعني ذلك بالضرورة أنّ روسيا لن تُقْدم على خطوات انتقاميّة ديبلوماسيّة واقتصاديّة. لكنّ العمل العسكريّ مستبعد في الظرف الراهن.
أحد أسباب الامتناع عن إبداء رد فعل عنيف قد يكون عدم استطاعة روسيا شنّ حربين متزامنتين مع غرقها الحاليّ في المستنقع الأوكرانيّ. من جهة ثانية، كانت حرب الشتاء قاسية جداً على السوفيات. لقد خسروا ما معدّله 160 ألف جنديّ مقابل أقل من النصف لدى الفنلنديّين خلال أقلّ من أربعة أشهر. وهذا يعني أنّ حرباً عسكريّة تقليديّة مع هلسينكي مستبعدة في المستقبل القريب.
من ناحية أخرى، وعلى الرغم من كلّ الضجيج الذي أثير عن أهمية انضمام الدولتين إلى الحلف الأطلسي، ربّما تستطيع روسيا استيعاب "صدمة" هذه الخطوة بما أنها استطاعت سابقاً التكيّف مع انضمام غالبية دول حلف فرصوفيا إلى الحلف. بالتالي، سيكون أسهل عليها تقبّل انضمام دول لم تكن أساساً في الكتلة الاشتراكيّة إلى الناتو.
ثمّة احتمال رابع لتفسير عدم إبداء روسيا ردّ فعل عنيفاً على قرار جارتيها. ربّما تدرك روسيا أنّ ما يحصل في ستوكهولم وهلسينكي هو نتيجة خطئها الخاص. لا يلفّ الغموض أو الالتباس هذا أسباب القرار. بحسب ما أوضحته النقاشات واستطلاعات الرأي الداخلية، كان القرار الجذريّ نتيجة للغزو الروسيّ لأوكرانيا. حين سئل رئيس فنلندا الأربعاء عن كيفيّة رد بوتين على قرار بلاده الانضمام إلى الحلف قال: "أنتم تسبّبتم بذلك – أنظروا إلى المرآة".