يبدو أنّ الحرب بين روسيا وأوكرانيا باتت أمام منعطف خطر، أو بتعبير أدقّ، أخطر من المنعطفات السابقة. داريا دوغينا، ابنة المنظّر السياسيّ الروسيّ ألكسندر دوغين، تقع ضحيّة تفجير استهدف سيّارتها عند نحو التاسعة من مساء السبت في إحدى ضواحي موسكو. وفقاً للأنباء المتداولة، كان دوغين ينوي أن يستقلّ السيارة نفسها قبل أن يغيّر رأيه في الدقائق الأخيرة. تشير التحقيقات الأوّليّة إلى أنّ عبوة ناسفة زُرعت في السيارة وأنّ هنالك ما يبعث على الاعتقاد بأنّ "الجريمة تم التخطيط لها مسبقاً" وفقاً للمحقّقين الروس.
وقال صديق دوغين أندريه كراسنوف لوكالة "تاس" الروسية إنّ "هذه كانت سيّارة الوالد. كانت داريا تقود سيارة أخرى لكنّها أخذت سيّارته اليوم، بينما ذهب ألكسندر في طريق مختلفة. لقد عاد، كان عند موقع المأساة. على حدّ علمي، ألكسندر أو على الأرجح كلاهما كان الهدف".
ألكسندر دوغين وابنته داريا - "تويتر"
لطالما دعم المفكّر الروسيّ الحرب في أوكرانيا حتى منذ ما قبل عمليّة ضمّ القرم سنة 2014. ويُعرف دوغين بأنّه "عقل بوتين" و"المرشد الروحيّ" لروسيا. لكنّ داريا سارت على خطى والدها أيضاً في السياسة. كانت لها إطلالات إعلاميّة أيّدت "العمليّة العسكريّة الخاصة" لروسيا في أوكرانيا، وفقاً للمصطلح الروسيّ. وفي آذار 2022، عاقبت وزارة الخزانة الأميركية دوغينا لمساهمتها في مقال على موقع "العالم الدولي المتحد" وقد هدّد المقال أوكرانيا بأنّها "ستهلك" إذا دخلت حلف شمال الأطلسي (ناتو). وفرضت المملكة المتحدة أيضاً عقوبات على دوغينا بسبب الحرب. وفي أيار، أعربت عن اعتزازها بأنّها ووالدها على لائحة العقوبات الغربية.
عمليّة أوكرانيّة "خاصّة"؟
ليس حدثاً عادياً أن تكون كييف قد نقلت المعركة إلى داخل روسيا في حال وقفت فعلاً خلف محاولة الاغتيال. حين خسرت روسيا عدداً من مقاتلاتها داخل إحدى القواعد العسكريّة الروسيّة في شبه جزيرة القرم بفعل انفجار عنيف في وقت سابق من هذا الشهر، سادت تكهّنات بأنّ صواريخ "هيمارس" الأميركيّة هي التي استهدفت القاعدة. وسرت أيضاً فرضيّة أخرى تتعلّق بقيام قوّات أوكرانية خاصة بالاستهداف "خلف خطوط العدو". تفجير سيارة دوغين يضيف نقطة أخرى إلى سلسلة عمليّات خاصّة يشتبه أن تكون أوكرانيا قد شنّتها خلف تلك الخطوط. بالمناسبة، لم تكن محاولة اغتيال ألكسندر دوغين المفترضة معزولة عن أيّ حوادث مشابهة. في الساعات الماضية، نجا عمدة ماريوبول الموالي لروسيا قسطنطين إيفاشنكو من محاولة اغتيال مماثلة وفقاً لصحيفة "الإندبندنت".
"اقتلوهم، اقتلوهم، اقتلوهم"
بحسب ما كتبت تارا إيزابيلا بيرتون في صحيفة "واشنطن بوست"، يمكن إيجاد أصداء كثيرة لأفكار بوتين عن "الوحدة الروحية" بين روسيا وأوكرانيا في كتابات دوغين. واكتسب الأخير شهرته سنة 1991 حين كتب أنّ "روما الأبدية" (روسيا) تواجه غرباً مادياً وفردوياً: "قرطاجة الأبدية". تأثّر دوغين وفقاً لبيرتون بأنصار التقليديّة مثل الفيلسوف الفرنسيّ رينيه غينون والفاشيّ الإيطاليّ يوليوس إيفولا وقد ترجم كتابه "الإمبريالية الوثنية". دوغين هو ضيف دائم على الإعلام الروسيّ وهو دليل إضافيّ على توافق أفكار بوتين مع دوغين وفقاً للكاتبة. لكنه بعد أن عُيّن رئيس قسم العلوم الاجتماعية في جامعة موسكو أقيل لاحقاً لظروف مختلف عليها ربّما بسبب دعوته إلى التخلّص من الأوكرانيّين حين قال: "اقتلوهم، اقتلوهم، اقتلوهم".
وفي مقابلة سابقة سنة 2017، نفى دوغين أن يكون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو الذي "يفرض الحكم السلطويّ علينا" بل "نحن من نطلب منه أن يكون أكثر سلطويّة". جاء ذلك، خلال إجابته على سؤال "سي بي أس" بشأن توافق أفكاره مع أفكار بوتين حين حضّ موسكو على التحالف مع إيران وتشجيع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى اقتراح ضمّ روسيا لأوكرانيا. وخضع دوغين للعقوبات الأميركية سنة 2015 بسبب مساهمته في الحرب وفقاً للاتّهام الأميركيّ. من أهداف دوغين أيضاً تأسيس إمبراطوريّة أوراسيّة تواجه الحضارة "الأطلسيّة".
سياق مضطرب
محاولة اغتيال دوغين تأتي في إحدى أصعب لحظات الحرب بين روسيا وأوكرانيا. ولا يتعلّق الأمر فقط بنوعيّة العمليّات المحتملة التي تشنّها القوات الأوكرانيّة في مناطق روسيّة أو أوكرانيّة تسيطر عليها القوّات الروسيّة بدون نزاع. كما لا يرتبط حتى بـ"الزخم" الذي اكتسبته أوكرانيا خلال الأسابيع القليلة الماضية كما لفتت إليه صحيفة "نيويورك تايمس" مؤخراً.
أعلنت وزارة الدفاع الألبانيّة السبت عن اعتقال رجلين روسيّين وآخر أوكرانيّ خلال محاولتهم التسلّل إلى مصنع عسكريّ وقد أصيب جنديّان ألبنانيّان بجروح خلال التصدّي. وقالت الوزارة إنّ أحد المشتبه بهم هاجم الحرّاس بينما كان يسعى لالتقاط صور لمصنع "غرامش" المخصّص لتفكيك الأسلحة القديمة. ونظر بعض المراقبين إلى هذا الحدث كاعتداء روسيّ مباشر على مصنع عسكريّ أطلسيّ بما أنّ ألبانيا دولة في حلف شمال الأطلسيّ.
لكن إذا كان مستبعداً أن يتّجه تفكير القادة الأطلسيّين إلى اعتبار هذا العمل هجوماً مباشراً على الناتو بما أنّ النيّة الغربيّة الأساسيّة كانت ولا تزال تفادي الصدام المباشر مع روسيا فإنّ المخاطر حول محطة زابوريجيا النووية قد تخرج عن السيطرة. فقد قال رئيس لجنة الدفاع في مجلس العموم البريطاني توبياس إلوود إنّ أيّ ضرر عمديّ يؤدّي إلى تسرّب إشعاعيّ في مفاعل زابوريجيا سيعدّ "انتهاكاً للمادة الخامسة من الناتو" التي تنصّ على أنّ أيّ هجوم ضدّ دولة أطلسيّة هو هجوم ضدّ جميع الدول الأعضاء في الناتو. النائب الجمهوري آدم كيزينغر أعرب عن التوجّه نفسه فكتب أنّ الأمر ليس أهلاً كي يخضع للنقاش أساساً، مشيراً إلى أنّ أيّ تسرّب يقتل أشخاصاً في دول أطلسيّة، فهذا يعني تفعيل المادة الخامسة بطريقة "آلية".
في هذا السياق من التطورات المرتبطة بحرب أوكرانيا تأتي محاولة اغتيال دوغين لتضيف عنصراً آخر من العناصر المساهمة في إخراج الحرب عن الأطار العام المتّفق عليه ضمناً بين الغرب وروسيا. لن يعني هذا الأمر صراعاً عسكرياً بين موسكو وبروكسل بشكل حتميّ، لكنّه على الأقلّ سيزيد من هذا الاحتمال في المستقبل القريب.