يبدو الرئيس الأميركيّ جو بايدن مصرّاً على الانسحاب من الشرق الأوسط، أو أقلّه تخفيف البصمة العسكريّة الأميركيّة فيه. والهدف المفترض صبّ الجهود في شرق آسيا من أجل التركيز على "التهديد" الصينيّ. مشكلة هذه المقاربة أنّها ليست جديدة وقد اعتمدتها الإدارات السابقة قبل أن تصطدم بالفشل في نهاية المطاف. سعى أوباما إلى تطبيق هذه النظريّة من خلال التوقيع على الاتّفاق النوويّ. حسِبَ أوباما تلك الخطوة مسهّلة لمسار "الاستدارة شرقاً". أتى ذلك بعد الانسحاب المبكر من العراق. أطلقت مقاربة الانسحاب من الشرق الأوسط بأيّ ثمن نتائج عكسيّة تماماً.
نتائج تجربتي أوباما وترامب
خسرت الولايات المتحدة صدقيّتها بعد فشلها في تطبيق "الخط الأحمر" المتعلّق باستخدام الرئيس السوريّ بشار الأسد السلاح الكيميائيّ ضدّ المعارضة السوريّة. كان أوباما يريد تفادي الانخراط في صراعات الشرق الأوسط وإرضاء إيران لتوقّع على الاتّفاق النوويّ. تمكّنت الديبلوماسيّة الروسيّة من مناورة الديبلوماسيّة الأميركيّة عبر التفاهم على تفكيك السلاح الكيميائيّ السوريّ مقابل عدم شنّ ضربة أميركيّة على المواقع العسكريّة. انتصرت موسكو بدهاء فمنعت واشنطن من قصف دمشق، مقابل تفكيك جزء من الترسانة الكيميائيّة سنة 2013. وعاودت دمشق استخدامها في نيسان 2017 و2018.
اضطرّ أوباما لإعادة قوّاته إلى سوريا والعراق من أجل التصدّي لتنظيم "داعش". واضطرّ أيضاً إلى دعم التحالف العربيّ بقيادة السعوديّة لمواجهة انقلاب الحوثيّين بناء على طلب حكومة الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي. علاوة على كلّ ذلك، لم يستطع أوباما تغيير الستاتيكو في شرق آسيا. فقد واصلت الصين صعودها الاقتصاديّ كما تبنّت سياسة متجرّئة في بحر الصين الجنوبيّ. وترك أوباما لخلفه كوريا شماليّة متمرّدة تُجري اختبارات صاروخيّة ونوويّة هدّدت الأمن في شبه الجزيرة الكوريّة.
وكانت نظرة ترامب إلى الشرق الأوسط تحمل ريبة عميقة مع انتقاد دائم لـ"الحروب التي لا تنتهي". لكنّ تفسيره لتلك العبارة بدا فضفاضاً فرأى في وجود ألف مقاتل أميركيّ من القوّات الخاصّة في سوريا "حرباً أبديّة"، فحاول سحبها من البلاد، على الأرجح إرضاء للرئيس التركيّ رجب طيب إردوغان، قبل أن يعدل عن قراره تحت ضغط من الكونغرس. في سياسته الإيرانيّة، حافظ ترامب على ضغطه العسكريّ والاقتصاديّ ليضمن استقرار الشرق الأوسط.
مع ذلك، عمدت وزارة الدفاع الأميركيّة (البنتاغون) سنة 2018 إلى سحب عدد من بطّاريّات "باتريوت" وحاملة طائرات من الشرق الأوسط نحو شرق آسيا. لكنّ الإدارة أعادت إرسالها إلى الخليج بعد عام واحد بسبب الهجوم على منشآت "أرامكو" النفطيّة في السعوديّة شهرَ أيلول 2019. من خلال التجارب التي مرّت بها الإدارتان السابقتان، يتبيّن أنّ كلّ انسحاب أميركيّ من المنطقة لصالح تغطية أهداف أخرى في آسيا أدّى إلى خسارة في آسيا والشرق الأوسط على حدّ سواء. لكنّ إدارة بايدن تبدو غير مهتمّة باستخلاص النتائج.
"يجرّب المجرّب"
يوم الجمعة الماضي، أشارت المتحدّثة باسم البنتاغون جيسيكا ماكنولي في بيان إلى أنّ وزير الدفاع لويد أوستن أصدر أوامره "بسحب بعض القوّات والقدرات من المنطقة خلال هذا الصيف" مضيفة أنّ الأمر يتعلّق "بشكل رئيسيّ بمعدّات دفاع جوّيّ". وجاء في البيان أنّ "بعض هذه المعدّات سيعاد إلى الولايات المتحدة للصيانة... والبعض الآخر سيُنقل إلى مناطق أخرى". وكانت صحيفة "وول ستريت جورنال" التي نقلت الخبر أوّلاً قد ذكرت أنّ البنتاغون بدأ منذ أوائل الشهر الحاليّ سحب ثماني بطاريات مضادّة للصواريخ من العراق والكويت والأردن والسعوديّة كما سحبت درع "ثاد" المضاد للصواريخ كان منشوراً في السعودية.
ما هي الرسالة التي يوجّهها بايدن إلى إيران؟ قد لا يكون هناك رابط سببيّ واضح بين سحب إدارة ترامب بطاريات "باتريوت" من السعودية سنة 2018 والهجوم على منشأة "أرامكو". لكنّ إسقاط هذا الرابط غير ممكن. لقد اعتادت إيران أن ترى في أيّ مبادرة أو بادرة أميركيّة للتواصل معها أو حتى لتخفيف الضغط عنها فرصة للتصعيد الإقليميّ. هذا ما حصل بعد التوقيع على الاتّفاق النوويّ سنة 2015 على سبيل المثال. حتى من دون العودة سنوات إلى الوراء، يمكن تذكّر كيف أدّى رفع إدارة بايدن الحوثيّين عن لائحة الإرهاب إلى تصعيد هجومهم ضدّ محافظة مأرب. لذلك، ليس مستبعداً أن تشهد المنطقة توتّرات إضافيّة بعد اكتمال عمليّة سحب الأصول العسكريّة خلال فصل الصيف، أو حتى ربّما قبل ذلك. في هذا الوقت، لا يتوقّف سقوط القذائف على القواعد العسكريّة الأميركيّة في العراق، على الرغم من المسار الديبلوماسيّ في فيينّا، بل على الرغم من بدء الولايات المتّحدة رفع بعض العقوبات عن إيران.
نظرية بايدن تُمنى بالفشل
تأتي كلّ هذه التطوّرات في خضمّ الخسائر التي تُمنى بها نظرة الإدارة الحاليّة تجاه السياسة الإيرانيّة. ظنّ الديموقراطيّون ومؤيّدو سياسة الانفتاح على إيران أنّ هذا الأسلوب هو الوحيد القادر على تليين سلوك طهران من جهة، وعلى تعزيز موقع الإصلاحيّين في نظام الجمهوريّة الإسلاميّة من جهة أخرى. أظهر فوز المتشدّد ابرهيم رئيسي بالانتخابات الرئاسيّة خطأين صارخين في هذه النظرة: الأوّل افتراض أنّ السياسة الأميركيّة تجاه طهران قادرة على التأثير أساساً في التطوّرات الداخليّة للجمهوريّة الإسلاميّة. الثاني أنّ هذا التأثير سيكون إيجابيّاً بشكل حتميّ على موقع الإصلاحيّين.
لقد اتّهم الديموقراطيّون ترامب بأنّه انسحب من الاتّفاق النوويّ فقط لأنّه حمل توقيع أوباما. لكن بالرغم من جميع التطوّرات التي طرأت خلال السنوات الخمس الماضية، وبالرغم من ثبوت عيوب الاتّفاق في منع إيران من الحصول على السلاح النوويّ والذي يتبيّن من خلال قدرتها السريعة على رفع تخصيب اليورانيوم إلى مستويات قياسيّة، يبدو أنّ إدارة بايدن تريد إحياء الاتّفاق أيضاً لأنّه فقط حمل توقيع أوباما (وتوقيع كبار مسؤوليها الحاليّين). والأمر نفسه ينطبق على سياسة الانفتاح على إيران بشكل عام. سحبُ الأصول العسكريّة الثقيلة من الشرق الأوسط ركيزة أساسيّة من ركائز هذه السياسة. يريد بايدن "تجربة المجرّب". لكن ليس واضحاً ما إذا كان يتوقّع فعلاً نتائج مختلفة.