في الساعات الماضية، زار ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مصر وتركيا والأردن. ومن المتوقع أن يستقبل أواسط الشهر المقبل الرئيس الأميركيّ جو بايدن الذي سيصل إلى جدة بعد زيارة تل أبيب والضفة الغربية. ثمّة ترتيبات جديدة في المنطقة سبقها تحوّلان كبيران: التكنولوجيا العسكرية المستندة إلى الذكاء الاصطناعي واستعداد الولايات المتحدة للانسحاب من الشرق الأوسط.
هذان العاملان "مزيج قابل للاشتعال" على ما يشرح الباحث البارز في "معهد المشروع الأميركي" والمحلل السابق في وكالة "سي آي أي" كينيث بولاك في عدد أيار/حزيران من مجلة "فورين أفيرز". وفي هذا المقال جانب تفسيري موسّع لما يحدث اليوم وكذلك جانب استشرافيّ لما قد يحدث في المدى المنظور.
يرى بولاك أنه على عكس الانطباع السائد، قد يكون العقدان الأخيران من القرن العشرين مستقرين نسبياً بالمقارنة مع الفترة المقبلة التي يحتمل أن يسير نحوها الشرق الأوسط. بعد سنة 1973، تفادت دول المنطقة الاصطدام العسكري المباشر بعدما تبين لها أنّ ما كانت تظنّه عن موازين القوى لم يكن صحيحاً. نجم عن التصورات الخاطئة فترة حرب طويلة بين عامي 1945 و 1973. كانت هنالك بعض الاستثناءات في حقبة الاستقرار التي تلت حرب الغفران، مع معمر القذافي وصدام حسين. والأمر نفسه ينطبق على اجتياح إسرائيل للبنان سنة 1982 والحرب بين إسرائيل و"حزب الله" في 2006. لكنّ الطرفين أدركا خطأ حساباتهما ولم يتحاربا منذ ذلك الحين وفقاً للكاتب. العامل الأول الطارئ على الساحة الإقليميّة قد يغيّر المعادلة.
تطوّرات عسكريّة
ستضمن الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية إلى حد كبير شراء مقاتلات "أف-35" الحديثة الطراز. هي مقاتلات مزوّدة بمجسات متطورة وذخائر بعيدة المدى وبرامج لإدارة المعارك. وهذه مميّزات معززة بالذكاء الاصطناعي. وسوف يكون البرنامج قادراً على تعقب معلومات أكبر بكثير من قدرات أي بشريّ. بالمقابل، تتطوّر تكنولوجيا الطائرات بلا طيار (درونز). هذه المسيّرات رخيصة وذات إمكانات تَخَفٍّ وقدرة على شن غارات دقيقة. وسيتمتع بعضها أيضاً بالقدرة على القيادة الآليّة بفعل الذكاء الاصطناعي. طوّرت إيران مسيّراتها واستخدمتها في المنطقة مباشرة (كما حصل مع آرامكو) أو عبر الوكلاء (هجمات الحوثيين على الإمارات والسعودية). لكنّ تركيا لفتت الانظار أيضاً بمسيّراتها (ليبيا وسوريا وناغورنو كراباخ). وثمّة أيضاً تطوّرات ضخمة في الحقل السيبيرانيّ.
انسحاب أميركا وتوسّع الضبابية
كما كان الشرق الاوسط حقل تجارب للأسلحة الأجنبية طوال 75 عاماً، كان أيضاً محطّ أطماع القوى المهيمنة لقرون عدّة بدءاً بالعثمانيين مروراً بالبريطانيين وصولاً إلى الأميركيين. اليوم، ومع ميل هؤلاء إلى الانسحاب، يجادل الكاتب لصالح اندلاع صراع بين دول شرق أوسطية في محاولة للحلول مكان واشنطن أو لمنع أي قوة أخرى من فعل ذلك.
تعزّز الضبابية التي تغطي القدرات الحقيقية للّاعبين المختلفين احتمالات اندلاع الأزمات. في الحرب العراقية-الإيرانية فازت الأخيرة بعدد من المعارك بين 1981 و1982 لكنها فشلت في فهم حدود قوتها فحاولت احتلال العراق طوال ست سنوات أخرى بلا جدوى. وقدّم الكاتب مزيداً من الادلّة عن صعوبة فهم الإمكانات العسكرية للطرف الآخر وهي صعوبة عالميّة لا إقليميّة وحسب. لم يتوقع أحد تحول السويد وبروسيا إلى قوتين عسكريتين في القرنين الثامن والتاسع عشر على التوالي كما لم يتوقع أحد سرعة انهيارهما. ومع أنّها أطلقت الثورة الصناعية والقطار والأسلحة الرشاشة والسونار والرادارات والغواصات وغيرها الكثير، لم تتمكن بريطانيا من الحفاظ على نفسها كقوة عسكريّة عظمى. وظنّ كثر أنّ فرنسا تعملت عسكرياً أكثر مما تعلّمته المانيا في الحرب العالمية الثانية. باختصار، كلما ازدادت ضبابية موازن القوى في المنطقة ازدادت معها فرص الحرب وفقاً لكولاك.
التقارب السعودي-التركي
ليس واضحاً ما إذا كان الأمير بن سلمان قد بحث مع الرئيس التركي شراء مسيرات "بيرقدار-تي بي-2" التي أثبتت فاعليتها مجدداً في الحرب الأوكرانية. بالحدّ الأدنى هذا الأمر محتمل. بالتالي، لن يكون مفاجئاً توصل الطرفين إلى اتفاق في هذا الموضوع. تركيا بحاجة إلى المزيد من الشركاء السياسيين والاقتصاديين في المنطقة بعد انفتاحها (المتباين النتائج) على المصريين والإماراتيين والإسرائيليين. فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان يبحث عن المزيد من الاستثمارات في ظلّ وضع اقتصادي سيّئ وعلى مشارف انتخابات رئاسية صعبة. بالمقابل، لا تبدو العلاقات التركية-الإيرانية في أفضل أحوالها مع تقارير عن احتمال اختطاف إيران معارضين لها وسياحاً إسرائيليين من الأراضي التركية، إضافة إلى خلافات إقليمية أخرى منها الملف الحكومي في العراق والتدخل العسكري التركي في شمال العراق وسوريا.
في الوقت نفسه، لن تكون تركيا مرتاحة إذا حصلت جارتها على السلاح النووي. وهذا عامل آخر يعزّز التواصل السعودي-التركي. ومن الطبيعيّ أيضاً توقّع صفقات أسلحة جديدة تعقب زيارة بايدن الرياض الشهر المقبل. وفي ظلّ رفع حدّة الحرب غير التقليديّة بين إسرائيل وإيران (اغتيالات لعناصر من الحرس الثوري، قصف مراكز حساسة في سوريا، وهجمات سيبيرانية متبادلة...) تحجب الضبابيّة أكثر توازن القوى في المنطقة. يأتي ذلك في وقت دخلت إسرائيل نفسها مجدّداً حالة من اللايقين مع حلّ الكنيست والتوجّه إلى خامس انتخابات تشريعية في غضون ثلاثة أعوام تقريباً.
علاقة أميركا الإشكالية مع الشرق الأوسط
ما يمكن أن يكبح عوامل الريبة في المنطقة هو أنّ الولايات المتحدة قد لا تتّجه إلى انسحاب كامل من الشرق الأوسط. إيران نفسها سبب مهم يقف خلف ذلك على الأرجح. كانت إعادة إحياء الاتفاق النووي ستسمح للولايات المتحدة بـ"التحرر" من الشرق الأوسط للتركيز على شرق آسيا. لكن مع اقتراب المفاوضات المتوقّفة في فيينا من الانهيار، ربّما تقتنع الإدارة بوجوب فرملة الاندفاع شرقاً. من ناحية ثانية، إنّ الانعطافة شبه الكاملة التي أقدمت عليها إدارة بايدن، أي من محاولة جعل السعودية دولة "منبوذة" إلى محاولة التواصل معها، تدعم أكثر هذه الفرضيّة. على الأرجح، ظنّت الولايات المتحدة أنّها أصبحت مستقلّة "طاقوياً" كي تتحرّر من إنفاق موارد هائلة على الشرق الأوسط واعتقدت أّنّ المستقبل هو للطاقة النظيفة. أثبت غزو أوكرانيا أنّ هذه التصوّرات غير دقيقة أو بالحدّ الأدنى مستعجلة.
ربّما يغيّر خرق ما في جدار أزمة فيينا حسابات الإدارة الأميركية. ستحتاج إيران إلى التوقّف عن طلب رفع الحرس الثوري عن لائحة الإرهاب للمضيّ قدماً. ويبدو أنّ الفرصة متاحة لذلك مع تقارير أشارت إلى أنّ الغرب مستعدّ للإصغاء إلى مطالب أخرى قد يتقدّم بها الإيرانيون. ربّما تقنعها بذلك عزلتها المتزايدة في المنطقة. وإن بقيت مصرّة على شطب الحرس عن قائمة الإرهاب فستبقى مطوّقة إقليمياً إلى حدّ كبير. في جميع الأحوال، يبدو أنّ مؤشّرات الانفجار لغاية اليوم أوسع من مؤشّرات التهدئة على الرغم من أنّ كلّ الأطراف تفضّل الخيار الثاني.