النهار

غزو أوكرانيا... عودة إلى ما قبل 1945؟
جورج عيسى
المصدر: "النهار"
عرفٌ دوليّ احتاج عقوداً ليترسّخ بعد الحرب العالمية الثانية قد تقوّضه الحرب الروسيّة على أوكرانيا.
غزو أوكرانيا... عودة إلى ما قبل 1945؟
جندي ورجل إطفاء أوكرانيان أمام مبنى مدمر في كييف، آذار 2022 - "أ ب"
A+   A-

دخل الغزو الروسي لأوكرانيا شهره الرابع مع مواصلة موسكو تركيزها على اجتياح منطقة دونباس. انطلقت المرحلة الثانية من الغزو أواسط أبريل (نيسان) بعدما فشلت المرحلة السابقة في إطاحة حكومة كييف وتعيين نظام موالٍ للكرملين. اليوم، يبدو الروس في وضع أفضل عسكرياً بالنظر إلى مجموعة عوامل تصبّ في مصلحتهم. اعترف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بصعوبة الأوضاع الميدانية التي تواجهها قواته في دونباس وطالب الغرب بالتوحّد على نطاق أوسع وبتسريع عملية تسليم الأسلحة الثقيلة إلى بلاده. بالمقابل، تبدو روسيا مصمّمة على استثمار كلّ إمكاناتها لتحقيق سيطرتها على شرق البلاد والجزء الأكبر من ساحلها الجنوبي.  

من المرجّح أن يساعد ذلك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على حفظ ماء الوجه عبر تمكينه من ادّعاء تحرير المناطق الخاضعة لحكم "النازيين" في دونباس، حيث تضمّ هذه المناطق أغلبيّات متفاوتة من الناطقين باللغة الروسيّة. صحيح أنّ قسماً كبيراً من الشرق الأوكرانيّ بات يكنّ العداء لروسيا بفعل تداعيات الحرب، لكنّ السيطرة على تلك المناطق سيرفد الكرملين بالدعاية التي يحتاجها لترسيخ حكمه الداخليّ. في الوقت عينه، سيسعى بوتين أيضاً إلى توجيه ضربة لنظام ما بعد الحرب الباردة. لكنّه قد يعيد العالم، على مستوى بعض المفاهيم والممارسات، إلى ما قبل بداية تلك الحرب حين برز القطبان الأميركيّ والسوفياتيّ. ما ظنّ كثر أنّه سياسة تنتمي إلى عصور بائدة، أعيد إحياؤه بشكل مفاجئ في 24 فبراير (شباط) الماضي.

 

حقبة جديدة-قديمة

بعد الحرب العالمية الثانية، اتّفقت القوى الكبرى ومعها الدول الناشئة حديثاً على ضرورة التوقّف عن تعديل الحدود الدولية بواسطة القوة. تقدّم أستاذة العلوم السياسية في جامعة مينيسوتا ومؤلّفة كتاب "موت الدول: سياسات وجغرافيا الغزو، الاحتلال، والضم" تانيشا فازال رؤيتها للتحوّلات الكبيرة التي طرأت على النظام الدولي قبل وبعد الحرب العالمية الثانية وتأثير حرب أوكرانيا على مستقبل العلاقات بين الدول. في العدد الحالي من مجلة "فورين أفيرز"، كتبت فازال أنّه منذ سنة 1816 وحتى 1945، كانت تختفي دولة واحدة كلّ ثلاثة أعوام كمعدّل عام، بفعل الاجتياحات والضمّ وتقاسم الأراضي. حدث ذلك مع الدول الواقعة بالقرب من جيران أقوياء أو حتى مع الدول التي لم تقم علاقات ديبلوماسية مع الدول الاستعمارية الكبرى.

تغيّر الوضع بعد الحرب العالمية الثانية، بفعل تجذّر أعراف الامتناع عن الغزو لأسباب كثيرة من بينها بروز قطبين عالميين وكلفة الحروب العالمية وبروز السلاح النووي وعدم وجود مصلحة مباشرة لدى بعض القوى في شنّ الغزوات. وراحت العولمة تتعزّز أكثر الأمر الذي أمّن للدول منافع اقتصادية بكلفة أقلّ بكثير من تلك التي تؤمّنها الحروب. صحيحٌ أنّه بين 1945 و 1990، لم يتوقّف غزو الأراضي بشكل كامل، لكنّ الحروب كانت عموماً أميل إلى التدخّل في الشؤون الداخلية للدول من دون إعادة رسم الحدود (تدخّل السوفيات في المجر أو فيتنام في كمبوديا مثلاً). كانت محاولة احتلال العراق للكويت سنة 1990 أقرب صورة عن محاولة احتلال روسيا لأوكرانيا اليوم، بحسب رؤية فازال.

 

ما هي الآثار البعيدة المدى؟

رأت فازال أنّ الأنباء الجيّدة التي برزت بعد 24 فبراير تكمن في الغضب الواسع والسريع من الحرب الروسيّة مع إعراب عدد من اللاعبين عن قلقه من تأثير سياسة بوتين على استقرار الحدود. تعترف فازال بأنّ الدفاع عن أوكرانيا وبالتالي عن العرف السائد في ما يتعلّق بقدسية الحدود لا يستحقّ الدخول في صراع نوويّ مع الروس. لكن بالمقابل، إنّ نجاح روسيا في تحقيق مبتغاها سيهدّد الدول المحاذية للقوى الكبرى بالزوال. ومع انتفاء قدسيّة الحدود تبرز مشكلة أخرى في زيادة "وحشيّة" الحروب مع التهجير والتغيير الديموغرافي.

لكنّ الصورة ليست قاتمة كلياً بالنسبة إلى الأستاذة الجامعيّة. نصف الدول التي ماتت بشكل عنيف بعد سنة 1816 عادت إلى الحياة: "قلّة من الاحتلالات في التاريخ نجحت بتحقيق أهدافها السياسية الطويلة المدى". وتابعت: "إذا تُرك الأوكرانيون كي يعيدوا إحياء بلدهم الخاص، فستكون النتيجة النهائية جيدة للأوكرانيين لكن ليست مشجّعة بالتحديد للعرف ضد الغزو الإقليميّ. كي تبقى الأعراف قوية، يجب معاقبة الانتهاكات". وعلى المستوى الدولي، أضافت الكاتبة، إنّ من يطمحون كي يكونوا غزاة سيستنتجون درساً واضحاً: من الممكن الإفلات بغزو الأراضي من دون عقاب.

 

بين المصلحة والرغبة

وفقاً لهذه الزاوية من التحليل، يبقى للغرب مصلحة كبيرة في إفشال مخطّط روسيا. لكنّ المصلحة ليست متجانسة بين التكتّل الغربيّ ككلّ. واضحة هي الخلافات بين فرنسا وألمانيا من جهة ودول أوروبا الوسطى والشرقية تجاه روسيا. فهاتان الدولتان غير المتخوّفتين من نزاع حدوديّ مع الروس ستنظران إلى هذا العرف الدوليّ بـ"قدسيّة" أقلّ من تلك التي تنظر إليها غالبيّة دول حلف وارسو. حتى المجر بصفتها دولة عانت من الحقبة السوفياتية لا تزال تعارض فرض عقوبات على صادرات الطاقة الروسيّة بالنظر إلى اعتماد اقتصادها الكبير على تلك الإمدادات، شأنها في ذلك شأن الاقتصاد الألمانيّ. وثمّة دول لا تنظر إلى ما يجري في أوكرانيا من بوّابة النزاعات الحدوديّة وحسب على الرغم من أنّها تعاني من مخاوف مرتبطة كما هي الحال مع الهند.

وهنالك نقطة أساسيّة تتعلّق بقضيّة السلاح النوويّ. إذا كان بروز هذا السلاح أواخر الحرب العالمية الثانية قد شكّل عاملاً ساهم في ترسّخ عرف حماية الحدود الدوليّة من التعديل القسريّ، فقد أطلّ هذا العامل برأسه من البوّابة الأوكرانيّة كعامل مثير للتجرّؤ على انتهاك هذا العرف. لو لم تكن روسيا قوّة نوويّة لكان الردّ الغربيّ أقوى من ذلك على الأرجح. وثمّة المزيد. إنّ الخوف من اندلاع حرب نوويّة لا يدفع البعض إلى التحذير من انخراط عسكريّ أكبر في أوكرانيا وحسب، بل إلى التخلّي عن الدعم العسكريّ لأوكرانيا بشكل كامل. لعلّ مطالبة هيئة التحرير في صحيفة "نيويورك تايمز" قبول كييف بالتخلّي عن بعض الأراضي لصالح روسيا هو أبرز مثل على ذلك. أدّى هذا الأمر ببعض الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعيّ مقترحين على الصحيفة التنازل عن ولاية ألاسكا إرضاء للروس. وتقدّم مفكّرون بارزون مثل نعوم تشومسكي وهنري كيسنجر بمقترحات مشابهة أيضاً، ممّا يشير إلى أنّ العرف في ما يخصّ حماية الحدود الدوليّة لا يتصدّر دوماً واجهة الأولويات في مقاربات حلّ النزاع. وثمّة مؤشّرات في الداخل الأميركيّ تظهر ولو لمحة عن تراجع نسبيّ في الدعم الشعبيّ لأوكرانيا. في مارس (آذار) الماضي، قال 42% من الأميركيين إنّ بلادهم لم تكن تقدّم ما يكفي من الدعم لأوكرانيا، قبل أن ينخفض هذا الرقم إلى 31% الشهر الحالي.

لا تعني هذه المؤشّرات أنّ الدول الغربيّة، أو أقلّه الدول الأكثر تشدّداً في مواجهة روسيا، ستتراجع بالضرورة عن دعم أوكرانيا لصالح إيجاد تسوية بين موسكو وكييف على حساب الحدود الأوكرانية. لكنّ مواصلة دعم أوكرانيا في الأشهر القليلة المقبلة قد لا تكون على المستوى نفسه من السهولة بالمقارنة مع ما كانت عليه في الفترة الماضية. وهذا ما ينطبق أيضاً على إمكانات روسيا في استدامة حربها.مجدّداً، مسار نهاية الحرب بين الطرفين لا يزال مبهماً.
 
*نقل عن "النهار العربي"

اقرأ في النهار Premium