النهار

أيّ سؤال يحجبه تحميل الناتو مسؤولية غزو أوكرانيا؟
وهذا يحبط بعض المحلّلين وحتى بعض المجتمعات
أيّ سؤال يحجبه تحميل الناتو مسؤولية غزو أوكرانيا؟
A+   A-

ثمّة إصرار لدى محلّلين غربيّين على تحميل حلف شمال الأطلسي (ناتو) مسؤوليّة ما يحدث لأوكرانيا. الأساس بحسب رأيهم بسيط وواضح: لو شجّع الناتو أوكرانيا على اتّباع نموذج الحياد الفنلنديّ بدلاً من وعدها بكسب عضويّته لتفادت الحرب والدمار. إلى جانب أنّ الفنلنديّين أنفسهم لم ينصحوا أوكرانيا باتّباع نموذجهم في الحرب الباردة، تعتري هذا التحليل نقاط خلل متعدّدة.

يرى الذين يتّهمون الناتو بـ"استفزاز" روسيا، وهؤلاء ينتمون إلى طيفي اليمين واليسار حول العالم، أنّ الحلف وعد موسكو بعدم التوسّع شرقاً وقد نكث بوعده. لكنّ هذه السرديّة غير محسومة. نفى الناتو هذا الأمر وقال إنّ سياسة "الباب المفتوح" المنصوص عنها في المادة العاشرة من المعاهدة التأسيسيّة "لم تتغيّر قط" منذ سنة 1949. وأضاف أنّ فكرة توسّع الناتو أبعد من ألمانيا الموحّدة لم تكن على الأجندة سنة 1989، بالتحديد حين كان لا يزال حلف فرصوفيا موجوداً. وأشار إلى أنّ هذا الأمر أكّده الزعيم السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشيف في مقابلة سنة 2014 حين قال: "لم تتمّ مناقشة مسألة ‘توسيع الناتو‘ على الإطلاق، ولم يتمّ طرحها خلال تلك السنوات. أقول ذلك بمسؤولية تامة".

بصرف النظر عن إطلاق الوعد من عدمه، لم يكن الناتو دوماً مصدر قلق كبير لروسيا. الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين طالب بالانضمام إلى الحلف سنة 2000 لكنّه لم يرد "الوقوف في الصفّ" كما تفعل الدول الصغيرة. إنّ تحميل بروكسل مسؤوليّة الحرب على أوكرانيا أحبطت الأوكرانيين ومراقبين آخرين من شرق أوروبا.

 

"لسنا مواطنين من الدرجة الثانية"

في عبارة "توسّع" الناتو، ثمّة ما يفيد ضمناً بقرار أميركيّ-أطلسيّ لضمّ المزيد من الدول، بما يحجب حقيقة أنّ صاحب القرار الأساسيّ موجود خارج واشنطن وبروكسل معاً. زميل ما بعد الدكتوراه في جامعة كونكورديا الكندية جان دوتكييفيتش والمحاضر في جامعة فرصوفيا جان سمولينسكي وصفا هذا التحليل بأنّه إطار عمل للتفسير-الغربيّ (westplaining) للصراع الحاليّ حيث تؤخذ مخاوف روسيا بالاعتبار، لا مخاوف أوروبا الشرقية. وهذا يعكس طريقة تفكير روسيا بأنّ أوكرانيا "تفتقر لأيّ سيادة" وأنّ أوروبا الشرقيّة مجرّد "شيء" يمكن تفسيره لكنّه ليس أهلاً للانخراط معه.

 
 

ما يذهب إليه الكاتبان واضح. للدول الأوروبية في شرق القارّة حقّ تقرير المصير. الانضمام إلى الناتو لم يُفرض عليها من بروكسل، بل هي التي طالبت بهذه العضويّة. يمتعض سمولينسكي ودوتكييفيتش من اعتبار هذه الشعوب مجرّد مواطنين "من الدرجة الثانية" حيث يتوجّب عليهم القبول بدورهم الجيوسياسيّ كمناطق عازلة محايدة على أطراف بقايا الإمبراطوريّتين الأميركية والروسية.

 

عن السؤال الأساسيّ

يفوت مناهضي توسّع الناتو سؤال أساسيّ قد يتفرّع إلى أسئلة عدّة: لماذا أرادت جميع الدول السوفياتيّة السابقة أو تلك التي كانت تدور في فلك الاتّحاد الانضمام إلى الأحلاف الغربية؟ لماذا لم ترد شعوب هذه الدول البقاء في فضاء النفوذ الروسيّ أو أقلّه البقاء على الحياد (الطوعيّ) بدلاً من المسارعة إلى طرق أبواب الناتو؟ ربّما لا تخطر في أذهانهم أسئلة كهذه ترتبط بـ"إرادة" الشعوب. فهذه الشعوب هي مجرّد "موضوع" لا "شخص" في التاريخ بحسب تفسير سمولينسكي ودوتكييفيتش لتحليل مناهضي "التوسّع" الأطلسيّ.

في السياق نفسه، يدعو المحذّرون من تداعيات انضمام أوكرانيا وجورجيا إلى الحلف بتصوّر ردّ فعل واشنطن لو انضمّت كندا أو المكسيك إلى حلف موالٍ للصين أو لروسيا. لكن ما لا يناقشه هؤلاء، مجدّداً، هو سبب عدم سعي أو رغبة هاتين الدولتين بالانضمام إلى أحلاف كهذه. هل هو مجرّد خوف من الولايات المتحدة أو بسبب ارتياحهما للعلاقات الوطيدة مع جارتهما؟

 

حيث فشلت روسيا بشدّة

بالعودة إلى هذه الأسئلة، لا شكّ في أنّ النموذج الغربيّ بقيادة الولايات المتحدة كان أكثر جاذبيّة لشعوب أوروبا الشرقيّة من النموذج الروسيّ. القيم الليبيراليّة والرفاهية التي تعد بها الدول الرأسمالية الغربية نجحت في جذب هذه الشعوب إليها. بعبارة أخرى، إنّ "القوّة الناعمة" التي تحدّث عنها طويلاً ولا يزال الأكاديميّ جوزف ناي، تنشر تأثيرها. بالمقابل، تفتقد روسيا لهذا التأثير وقد اكتفت بالسعي إلى تعزيز قوّتها الصلبة طوال العقدين الماضيين. لكن حتى هذه القوّة وصلت إلى حائط مسدود في أوكرانيا، هذا إن لم تكن قد بدأت بالتآكل.

 
 

معنى ذلك من حيث قياس السياسات بنتائجها، أنّ رهان دول أوروبا الشرقية والوسطى (نادي دول بوخارست التسع) على المنافع الأمنيّة التي ستجنيها من الناتو كان في محلّه. وتضاف إليها أيضاً المنافع الاقتصاديّة، حيث أنّ النجاح في كسب العضويّة الأطلسيّة يسهّل كسب العضويّة الأوروبية. لطالما كانت الولايات المتحدة متفوّقة على روسيا في مجال مؤشّر "القوّة الناعمة" وهو المؤشّر الذي يظهر إمكانيّة اللاعبين الدوليين في تغيير سلوك الآخرين من خلال التأثير أو الإقناع، عوضاً عن الإكراه. إنّ انتقال دول أوروبا الشرقية بأكملها، أو محاولتها الانتقال، من ضفّة حلف فرصوفيا إلى ضفّة الأطلسيّ يؤكّد هذه المعادلة.

وثمّة أسئلة تتخطّى أوروبا في ما يتعلّق بالسياسة تجاه روسيا. إذا كان نادي "دول بوخارست التسع" قد اختار الأحلاف الغربية بسبب تعرّضه للتأثير الأميركيّ بشكل أو بآخر، فدول آسيا الوسطى التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتيّ والتي لا تملك مصلحة مباشرة مع الأميركيّين بمقدار مصلحة الأوروبيين، تبدو هي أيضاً متردّدة في دعم روسيا. على الرغم من انتمائها إلى "منظّمة معاهدة الأمن الجماعيّ" بقيادة موسكو، امتنعت قازاقستان مثلاً عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن إدانة الغزو بدلاً من دعم روسيا التي أعادت إليها الاستقرار بعد اضطرابات كانون الثاني. أمّا الدول الأربع الأخرى فهي إمّا امتنعت عن التصويت أو لم تحضر أساساً. هذا دليل إضافيّ على أنّ نفوذ روسيا الإقليميّ هو مصدر ريبة أو عدم ارتياح حتى بين الشركاء المفترضين للروس في آسيا. ومن المتوقّع أن تخسر روسيا المزيد من القوّة الناعمة بعد غزوها أوكرانيا.

 

كيف يفسّرون معنى "السرقة"؟

قد يحثّ "الواقعيّون" الأوكرانيّين على التخلّي عن "السيادة" وعن "طموحاتهم" المستقبليّة لصالح ضمان أمنهم. مشكلة هذا التشجيع مزدوجة: هي تؤيّد ضمناً فكرة أنّ روسيا تتصرّف كدولة "إمبراطوريّة" في القرن الواحد والعشرين من جهة، وهي تعجز عن ضمان أمن أوكرانيا على المدى البعيد من جهة أخرى.

 
 

حين يرى بوتين أنّ روسيا تعرّضت تاريخياً لـ"السرقة" من خلال تنازل السوفيات والقياصرة عن أراض روسيّة لصالح أوكرانيا، تصبح قراءة الحرب الحاليّة أكثر تجانساً مع واقع أنّ روسيا "تستردّ ما سُرق منها" بالمقارنة مع واقع أنّ روسيا تخشى من التمدّد الأطلسيّ. وإذا عجزت روسيا في المعركة الحاليّة عن استرداد تلك الأراضي، فقد لا تتوانى عن تكرار هذه التجربة في المستقبل. مطالبة روسيا خلال المفاوضات بنزع سلاح أوكرانيا تجعل احتمالاً كهذا أكثر من جدّيّ.

اقرأ في النهار Premium