النهار

بوتين لم يخرج خاسراً من الانتخابات الفرنسية
مبالغة في التصورات عن قدرة "الرئيسة" لوبن على إفادة بوتين
بوتين لم يخرج خاسراً من الانتخابات الفرنسية
A+   A-

أفضل الدروس التي يتعلّمها الإنسان هي تلك النابعة من تجارب قاسية. والعلاقات الدولية ليست استثناء لهذه القاعدة. تصوّرُ أن يكون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مراهناً على فوز مارين لوبن بالرئاسة الفرنسية لتحقيق مكسب سياسي له أو لبلاده لا يخلو من المبالغة. وتكبر هذه المبالغة مع اعتقاد أنّ بوتين بحاجة لفوز لوبن، الآن، بعد غزو أوكرانيا.  

 

ذاكرة الروس ليست قصيرة

لم ينسَ الرئيس الروسي بالتأكيد، ولا صنّاع القرار في الكرملين، الآمال الكثيرة التي علّقوها على فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية سنة 2016. حينها شرب مشرّعون روس نخب الرئيس الجديد. لم يطل الوقت قبل أن تتبدّد آمالهم.

بعد سبعة أشهر على دخوله البيت الأبيض، فرض ترامب أوّل حزمة عقوبات على روسيا لتدخّلها في الانتخابات الأميركية. وبعد محاولة اغتيال الجاسوس سيرغي سكريبال في بريطانيا، طردت الولايات المتحدة عدداً من الديبلوماسيين الروس يساوي عدد من طردتهم جميع الدول الأوروبية.

وفرضت إدارة ترامب عقوبات أخرى على مسؤولين روس وأوكرانيين بسبب ضمّ القرم وانتهاكات حقوقية في أوكرانيا وعلى رئيس جمهورية الشيشان رمضان قديروف الذي تشارك قواته اليوم في الغزو. وكانت إدارة ترامب هي التي افتتحت سياسة إرسال صواريخ "جافلين" المضادة للدبابات إلى أوكرانيا وفرضت عقوبات على مشروع "نورد ستريم 2" لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا. (ألغت إدارة بايدن هذا القرار السنة الماضية).

تجربة الروس مع ترامب لا يفترض أن تشجّعهم على التفاؤل كثيراً بإمكانية إدخال لوبن تغييرات جذرية في السياسة الفرنسية تجاه موسكو، لو نجحت في الانتخابات. وصنّاع القرار الروس يدركون أيضاً أنّ لوبن لن تكون قادرة على الحكم بحرّيّة لأنّها لن تحصل على الغالبية التشريعية في انتخابات يونيو/حزيران.

لا يعني كلّ ذلك أنّ فوزاً مفترضاً للوبن كان سيزعج بوتين. بالحدّ الأدنى، أمكن حدثاً كهذا أن يضمن استمرار ظواهر الاستقطاب وانعدام الاستقرار في بعض الديموقراطيات. لكنّ تأثير فوزها المفترض على سياسة فرنسا الخارجية كان سيبقى محدوداً على الأرجح. فلوبن كانت أيضاً مهتمّة بوضع مصالح حلفائها في وارسو والمناهضين لروسيا، على محمل الجد في سياستها الخارجية.

 

ماذا عن سياسات ماكرون؟

لا يبدو أنّ سياسة ماكرون تجاه روسيا متشدّدة كثيراً تجاه الكرملين، على الأقلّ عند مقارنتها بسياسات دول غربية أخرى. لا شكّ في أنّ لدى الرئيس الفرنسي مقترحات يمكن أن تؤذي روسيا في المدى القريب كحظر استيراد الطاقة من روسيا. أعرب وزير الخزانة الفرنسي برونو لومير الأسبوع الماضي عن أمله في إقناع الشركاء الأوروبيين بفرض الحظر قائلاً إنّ هذا ما يريده ماكرون. وتصدّر روسيا إلى فرنسا ربع حاجتها من الغاز. لكن مدى استعداد ماكرون لهذه الخطوة يبقى ضبابياً خصوصاً إذا ربطها بقرار موازٍ من برلين وبروكسل بشكل أعمّ.

مع وضع هذه الخطوة جانباً، يبقى ماكرون أكثر رئيس غربي زار موسكو قبيل وبعد اندلاع الحرب، وهو أمر أقلق بعض الغربيين على أي حال. وفرنسا هي من أقل الدول الأوروبية تقديماً للمساعدات العسكرية إلى أوكرانيا. ورفض استخدام عبارة "الإبادة" لتوصيف القتل الذي يتعرض له المدنيون الأوكرانيون على يد الجيش الروسي، بالنظر إلى أنّ الأوكرانيين والروس "شعبان شقيقان". دفع هذا الأمر مراقبين للإشارة إلى أنّ ماكرون يصدّق الدعاية الروسية. وتنفي روسيا ضلوعها في هكذا أعمال.

 

فوز ماكرون أفضل لبوتين

لعلّ الأهمّ من كلّ ذلك هو أنّه إذا كان بوتين بحاجة لأيّ مبادرة ديبلوماسيّة توفّر له مخرجاً من الأزمة فسيكون ماكرون على الأرجح أفضل من يؤمّنها له بفعل علاقاته مع الأوروبيين والأميركيين. يصعب تخيّل أن تكون لوبن قادرة على توفير مثل هذه المبادرة لو وصلت إلى الإليزيه. إنّ فرنسا معزولة أوروبياً لن تكون ذات فائدة كبيرة لروسيا حالياً.

في جميع الأحوال، لا تشكّل فرنسا ككلّ مصدر قلق كبير للروس حالياً. في الدورة الأولى، صوّت نحو نصف الفرنسيين لمرشّحين مؤيّدين، بدرجات مختلفة، للتقارب مع روسيا: مارين لوبن وإريك زيمور وجان-لوك ميلانشون. يرى هؤلاء المرشحون في حلف شمال الأطلسي مؤسّسة تنتمي إلى زمن مضى. ودعت لوبن إلى انسحاب فرنسا من القيادة المشتركة للناتو على الرغم من رفض تخليها عن المادة الخامسة من المعاهدة المؤسسة. لا شكّ في أنّ هذه الرؤى تريح بوتين، لكن ليس إلى حدّ دفعه للرهان على مرشّحين لن تسعفهم خبرتهم الضئيلة ولا علاقاتهم المحدودة ولا أحزابهم الصغيرة في تحقيق هكذا طموحات لو وصلوا إلى الرئاسة.

بالمقابل، إنّ سعي ماكرون إلى تأسيس جيش أوروبي يتمتّع باستقلاليّة عن الولايات المتحدة قد يروق أكثر لبوتين بما أنّه يمكن أن يساهم في إضعاف أو تقويض الناتو على المدى البعيد. لهذا السبب، أثارت دعوات ماكرون لتأسيس "استقلالية" أوروبية أكانت سياسية أو عسكرية عن الولايات المتحدة انتقادات من دول الجناح الشرقي للحلف الأطلسيّ.

بعد فوزه بالانتخابات، هنّا بوتين ماكرون متمنياً له النجاح في ولايته الثانية. تضافرُ عناصر هذا النجاح في الأعوام الخمسة المقبلة سيكون أصعب بالمقارنة مع ظروف الولاية الأولى. والحرب على أوكرانيا أحد أسباب هذه الصعوبة بالتأكيد.

 

 

 

اقرأ في النهار Premium