الشكوك حيال إمكانية الغرب في الحفاظ على وحدته بمواجهة الغزو الروسي لأوكرانيا كانت واضحة منذ فترة طويلة. عملياً، كان غياب هذه الوحدة من العوامل المتعدّدة التي حفّزت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على إطلاق "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا. اليوم، وبعد أكثر من ثلاثة أشهر على انطلاق الغزو، تتزايد التساؤلات عن المدى الذي يجب فيه على الولايات المتحدة وحلفائها الانخراط في الدعم العسكري لأوكرانيا.
إذا كان الغرب قد نجح في منع سقوط كييف بفعل المساعدات والتدريبات العسكرية التي قدّمها لأوكرانيا على مدى سنوات طويلة، فاحتمالات نجاحه في منع منطقة دونباس من السقوط أمام التقدم الروسي تبدو أكثر إشكاليّة. ومن المرجّح أن تعاود الخلافات الظهور بين الغربيين بسبب المقاربات المختلفة لكيفية معالجة هذه المعضلة: أيجب أن يكون الدعم العسكري لأوكرانيا مستداماً حتى استنزاف روسيا إلى أقصى حدّ ممكن؟ أم ينبغي الاستعداد لدعوة الطرفين إلى طاولة الحوار من أجل تخفيف الأعباء البشرية والاقتصادية عن أوكرانيا وتفادي تصعيد خطير مع دولة نووية كروسيا؟
"كارثة أخلاقية واستراتيجية"
ترفض صحيفة "واشنطن بوست" فكرة الدعوة إلى الحوار في الوقت الحاليّ. "ستكون كارثة – أخلاقية واستراتيجية معاً – إذا تمت دعوة السيد بوتين إلى المحادثات قبل إحباط أكبر أهدافه الحربية". تلفت الصحيفة النظر إلى أصوات دعت لحثّ أوكرانيا على القبول بالتفاوض وبتقديم تنازالات حتى، من بينها ما كتبته مؤخراً زميلتها "نيويورك تايمز" أو ما قاله وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر في منتدى الاقتصاد الدولي الذي استضافته دافوس. لكنّ الصحيفة ترى أنّ هذه الأصوات لا تشكّل الغالبيّة في الغرب.
ثمّة صعوبة في قياس حجم الغالبية والأقلية في هذا السياق. المجر وإيطاليا وفرنسا وألمانيا تؤيّد خفض التصعيد. قد تكون هذه الدول أقلية على المستوى العدديّ في القارّة العجوز، لكنّها ليست كذلك على مستوى النفوذ السياسيّ والاقتصاديّ داخلها. بطبيعة الحال، لا يشكّل طلب السويد وفنلندا الانضمام إلى حلف شمال الأطلسيّ نبأ سارّاً لهذه الدول. هذا الطلب يضفي نوعاً من الشرعيّة على اعتماد وجهة النظر المتشدّدة تجاه موسكو. لكن بالمقابل ثمّة تساؤلات عن قدرة أوكرانيا على صدّ التقدّم الروسيّ الذي لا يزال ثابتاً على الرغم من بطئه الشديد.
"يتقدّمون في جميع الاتجاهات"
يوم الثلاثاء الماضي، قال حاكم منطقة لوغانسك سيرغي هايداي في رسالة على تطبيق "تيليغرام" إنّ منطقته "تواجه أصعب وقت في سنوات الحرب الثماني". وأضاف: "يتقدّم الروس في جميع الاتجاهات دفعة واحدة؛ لقد جلبوا عدداً مهولاً من المقاتلين والتجهيزات". واتّهم روسيا باتّباع تكتيك "الأرض المحروقة" في حربها على المنطقة. في اليوم نفسه، قالت السلطات العسكرية البريطانية إنّ القوات الروسية تحاول محاصرة سيفيرودونيتسك والمدينتين المجاورتين لها ليسيشانسك وروبيجنه.
ورمى الروس منشورات على سيفيرودونيتسك تطالب فيها سكّان المدينة التي تضمّ قرابة 100 ألف نسمة بالاستسلام. وصف البعض تلك المدينة بأنّها ستكون "ماريوبول التالية" لأنّ احتمالات سقوطها أكبر من احتمالات صمودها، بالنظر إلى كثافة القصف ونقص الأسلحة الطويلة المدى التي تطالب بها كييف إضافة إلى الفارق الكبير بين أعداد المهاجمين والمدافعين (7 إلى واحد أحياناً).
"مرحلة طاحنة"
مع ذلك، لا يزال مسؤولو الدفاع الغربيون يحتفظون بنظرة أقلّ قتامة من نظرائهم الأوكرانيين على قاعدة أنّهم لا يركّزون على التفاصيل اليومية للمعارك بل يحاولون تعقّب المسار العام للحرب، بحسب ما قالوه لمجلة "فورين بوليسي". ورأى قائد القوات الأميركية والأطلسية في أوروبا الجنرال تود فولترز أنّ الحرب تدخل "مرحلة طاحنة، ولا يزال هنالك طريق طويل لاجتيازه. سنكون على الأرجح في موقع حيث ستستمر هذه المرحلة الطاحنة لأسابيع إضافية عدّة".
من جهة ثانية، يعتقد البعض أنّه لا يزال أمام الروس فترة طويلة قبل الإطباق كلياً على سيفيرودونيتسك. وحتى مع نجاح هذه المهمّة، قد لا يحقّق الروس انتصاراً استراتيجياً في الحرب، بما أنّ المرحلة الحالية تقوم على "التطاحن" و"الاستنزاف"، وبالتالي على الكرّ والفرّ. هذا ما يعتقده أيضاً الكاتب السياسيّ في شبكة "بلومبرغ" أندرياس كلوث. حاول كلوث استشراف المرحلة المقبلة من الحرب التي لن تخسر أوكرانيا خلالها لكنّها بالمقابل لن تستطيع دحر القوات الروسيّة إلى ما وراء حدود 24 شباط. بحسب رأيه، يتراوح مستقبل أوكرانيا من جهة بين اعتناق نموذج الهدنة في شبه الجزيرة الكورية لكن من دون الحصول على حماية أميركيّة كما هي الحال مع كوريا الجنوبية، واعتناق النموذج الفنلندي لكن مع انتظار عقود طويلة للازدهار من جهة ثانية. بالنسبة إلى كلوث، ليس بإمكان المدى المنظور سوى إطلاق نتائج "فوضوية" و"مأسوية". وسيكون النجاح فقط عبارة عن تفادي أسوأ الكوارث.
سباق مع الزمن
سيواجه الغرب صعوبة في التعامل مع هذا الواقع. إذا اقتنع بعدم جدوى إمداد أوكرانيا بالأسلحة لأنّ ذلك سيؤدّي إلى "إطالة عبثية" للحرب فقد يدفع أوكرانيا إلى طاولة التفاوض ويضغط عليها كي تتنازل ولو بصيغة مبهمة عن الأراضي التي فقدتها بعد الغزو. لكنّ بريطانيا ودول أوروبا الشرقية ستواصل رفض هذا السيناريو في المستقبل المنظور. ومن غير المتوقّع أن يغيّر الرئيس الأميركيّ جو بايدن سياسته في هذه الأثناء.
رأت "واشنطن بوست" أنّ الهجوم الأوكرانيّ المضاد قد يفشل وربّما يصل الوضع العسكريّ إلى طريق مسدود يجعل التسوية حتميّة. "لكن لغاية اليوم، إنّ أفضل طريقة أمام أصدقاء أوكرانيا للمساعدة هي في تسريع شحنات الأسلحة الحيوية – والتوقّف عن التفاوض مع أنفسهم".
يتبيّن أنّ الغرب لم يدخل سباقاً مع الزمن لدعم أوكرانيا عسكرياً وحسب، بل أيضاً لتفادي التفسّخات التي تظهر في صفوفه. على الأقلّ، يستطيع غبار المعارك تأجيل قرارات مصيريّة بشأن مستقبل أوكرانيا بضعة أسابيع وربما أيضاً بضعة أشهر.