مثّل غزو أوكرانيا أكبر خطأ استراتيجيّ للرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين. كشف الغزو مكامن ضعف هائلة في ما كان يفترض أن يكون ثاني أقوى جيش في العالم. واستدعت الحرب، أو العمليّة العسكريّة الخاصّة بحسب التسمية الروسيّة، عقوبات ستنهك الاقتصاد أكثر على المدى الطويل وإن كان قد أبدى بعض المرونة في الأشهر الأولى على بدء فرضها. وبينما كانت روسيا في العقدين الماضيين محطّ جذب لليد العاملة الآتية من الدول السوفياتيّة السابقة، أصبحت اليوم تعاني من هجرة عكسيّة سببها تدهور الاقتصاد وإعلان التعبئة العسكريّة الجزئيّة.
على الصعيد الدوليّ، خسرت روسيا أصدقاء كثر، خصوصاً في آسيا الوسطى، فيما تبقي الصين والهند علاقاتهما التجارية معها بدافع شراء موارد الطاقة الرخيصة. هذه الأسباب وغيرها كافية نظريّاً لتوليد شرخ في أيّ قيادة رسميّة عليا. وهذا ما لم يحصل في روسيا، أو أقلّه لم يظهر إلى العلن. في كلتا الحالتين، قد تتبدّل الأمور مستقبلاً. ما يصعّب إطلاق توقّعات في هذا الشأن عدم وجود دليل أو مؤشّر تاريخيّ معاصر إلى كيفيّة تبلور الانشقاقات أو الانقلابات في موسكو باستثناء ما ندر. والحديث يدور عن الانقلابات لأنّه يصعب توقّع ثورة حقيقيّة داخل روسيا بعد أكثر من مئة عام على غيابها. قد تكون أحدث الأمثلة على الخلافات السياسيّة داخل الكرملين ما شهده الاتّحاد السوفياتي خلال النصف الثاني من القرن العشرين وحتى انهياره.
محور الخلافات
قال أستاذ ويلسون شميت المتميّز في كلّيّة جونز هوبكينز للدراسات الدوليّة المتقدّمة سيرغي رادشنكو إنّ غالبيّة الانقلابات في موسكو لم تحدث بفعل خلافات إيديولوجيّة بين المتناحرين وإنّما بسبب خلافات سلطويّة. بعد وفاة ستالين، أزيح وزير الداخليّة الذي كان مقرّباً منه لافرنتي بيريا. أغلب الظنّ أنّ نيكيتا خروتشيف ورئيس الوزراء جورجي مالينكوف كانا وراء ذلك. بعدها، أزاح خروتشيف مالينكوف علماً أنّ الأخير كان أعلى رتبة منه. أغضب ذلك المكتب السياسيّ فحاول عزل خروتشيف سنة 1957، ونجح في جمع الأصوات الكافية (7 مقابل 4). لكنّ خروتشيف ضمن دعم وزير الدفاع جورجي جوكوف ورئيس "كاي جي بي" إيفان سيروف فحشدا الأصوات في اللجنة المركزيّة لنقض تصويت المكتب السياسيّ. بعد أشهر، أعرب خروتشيف عن "امتنانه" لجوكوف فأقاله. وفي سنة 1964، أزيح خروتشيف من السلطة عبر انقلاب. من بين قادة الانقلاب برز المقرّبان من خروتشيف نفسه ليونيد بريجنيف والرئيس الأسبق لـ"كاي جي بي" ألكسندر شيليبين.
هذه عيّنة من الأمثلة التي قدّمها رادشنكو ليظهر طبيعة الانقلابات في موسكو السوفياتيّة. يستبعد رادشنكو أن يكون خروتشيف قد أطيح من السلطة بفعل مأزق أزمة صواريخ كوبا على اعتبار أنّ السياسة الخارجيّة حقل متخصّص متروك تقديره للزعيم السوفياتيّ الأعلى. لكنّ الأستاذ المشارك لمادّة التاريخ في جامعة نيويورك تيموثي نفتالي يرى أنّ الأزمة كانت سبباً رئيسياً خلف القرار. وصل ذلك إلى حدّ أنّ بوتين، وفي إجابة عن سؤال متّصل قال مؤخّراً: "يستحيل... أن أتخيّل نفسي في دور خروتشيف".
تركيبة بوتين الأمنيّة
قد يخشى بوتين تداعيات سلبيّة للحرب الأوكرانيّة على حكمه. لكن في جميع الأحوال، يصعب ترقّب تلك التداعيات في وقت قريب. وإن كانت الأنظار موجّهة إلى المؤسّسة الأمنيّة لقيادة الانقلاب فربّما تصاب بخيبة أمل. يشير دانيال تريسمان، أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا – لوس أنجلوس، إلى أنّ بوتين أسّس مختلف الأجهزة الأمنيّة بشكل يراقب بعضها بعضاً. هذا ما يحصل مع جهاز الأمن الفيديراليّ (أف أس بي) والاستخبارات العسكريّة الروسيّة (جي آر يو) وخدمة الحراسة الاتّحادية (أف أس أو) والحرس الوطنيّ الروسيّ. ولجهاز الأمن الفيديراليّ قسم لمكافحة التجسّس العسكريّ ينشر وكلاء في كلّ الوحدات العسكريّة أكانت بحريّة أو برّيّة أو جوّيّة. حتى داخل الجهاز نفسه، تنتشر ثقافة غياب الثقة بسبب ملاحقات بالفساد أو الخيانة.
من جهة ثانية، لم يتحوّل الاتّحاد السوفياتيّ إلى "عصبة عسكريّة" فعّالة يمكن أن تساعده في الاستيلاء على السلطة. على سبيل المثال، حين حاول الجيش و"كاي جي بي" شنّ انقلاب سنة 1991 ضدّ غورباتشيف، برهنا عن انعدام كفاءة "بشكل مذهل" بحسب رادشنكو.
لكنّ التشابك وغياب الثقة بين الأجهزة الأمنيّة لا يعني بالضرورة أنّ الحكم مستقرّ. من جهة، لا يزال البعض يعتقد أنّ بداية النهاية تلوح في الأفق. يؤكّد الكاتب السياسيّ ليونيد غوزمان أنّ "الجميع، باستثناء ربما بوتين نفسه، يفهم أنّ نظامه يقترب من النهاية." يرجع ذلك لا إلى طريقة سير الحرب في أوكرانيا وحسب، بل عموماً إلى غياب الرؤية المستقبليّة واستنزاف الموارد السياسيّة والأخلاقيّة وعدم القدرة على الحضور وسط العزلة وغيرها.
سيناريوهان "واقعيّان"
يفترض غوزمان وجود سيناريوهين "واقعيّين إلى حدّ ما" لهذه النهاية. الأولى "أبوكاليبتيّة"، تنطوي على انهيار سريع للحكومة الروسيّة التي تضمُر فعلاً مع فقدانها السيطرة على الأمور وعدم الانصياع لأوامرها كما حدث بعد إعلان التعبئة. يشبه هذا الوضع ما حصل إبّان عهد غورباتشيف الذي راح يصدر المرسوم تلو المرسوم من دون إظهار المسؤولين نيّة الامتثال. يؤدّي هذا الانهيار إلى بدء اقتتال تشكيلات عسكريّة مختلفة للحصول على السلطة؛ "مستوى العنف وإرقاة الدماء سيكون غير قابل للتخيّل".
السيناريو الثاني يتمثّل بعمل محيط بوتين على إقناع الرئيس بالاستقالة مع وصول البلاد إلى طريق مسدود. ثمّة فرصة في أن يقدّم أكثر المستشارين المحظيّين بثقة بوتين استراتيجيّة لخروجه من السلطة، علماً أنّ الكاتب نفسه يعترف بصعوبة معرفة ما إذا كان أيّ من هؤلاء المستشارين مستعدّاً للإقدام على هكذا الخطوة أو إذا كان بوتين سيقبل بها.
تقاطع وتمايز
ثمّة ما هو لافت للنظر في تحليلي غوزمان ورادشنكو: يتّفق كلاهما تقريباً على صعوبة أن تكون استراتيجيّة الخروج المقدّمة لبوتين مقنعة بالنظر إلى أنّ رئيس كازاخستان السابق نور سلطان نزارباييف واجه فضائح وتظاهرات ضدّه بعد خروجه من الحكم بالرغم من اعتقاده بأنّه دبّر لنفسه مخرجاً آمناً من الحكم. كما ظنّ أنّ بإمكانه مواصلة الإمساك بالسلطة خلف الكواليس وهذا ما لم يتحقّق.
بالمقابل يتّفق غوزمان وتريسمان على واقعيّة سيناريو تحلّل الحكومة وإن كان الأخير أكثر ميلاً لتوقّع انهيار بطيء وأكثر سلميّة من الانهيار "الأبوكاليبتيّ" لغوزمان. كذلك، لا يستبعد تريسمان أن يرى بوتين في توسيع دائرة المرشّحين الرئاسيّين لسنة 2024 أو حتى تقاسم السلطة معهم، أكثر خيار آمن له.
إلى ما بعد الشتاء
حاليّاً، من المرجّح أن تتّجه أنظار بوتين ومستشاريه إلى الميدان الأوكرانيّ في فصل الشتاء. الرهان الأكبر ينصبّ على إمكانيّة دفع الأوكرانيّين إلى اليأس مع مواصلة قصف البنى التحتيّة الحيويّة من أجل حرمانهم من الطاقة والتدفئة. ويسري التوقّع نفسه لجهة الرهان على دفع الأوروبّيّين إلى الضغط على حكوماتهم لوقف المساعدات العسكريّة إلى أوكرانيا تجنّباً لشتاء تنخفض فيه صادرات الغاز إلى أوروبا نحو حدّها الأدنى. لا تزال احتمالات تحقّق هذين الرهانين متواضعة. إنّ قطع سبل العيش عن الأوكرانيّين قد يدفعهم للتصلّب أكثر في مواقفهم، كما أنّ مخزونات الدول الأوروبّيّة من الغاز التي تخطّت الأهداف المحدّدة مسبقاً قد تمكّنها من اجتياز الشتاء بأقلّ الأضرار الممكنة. مواقف الفرنسيّين والألمان بتصعيد الدعم العسكريّ والسياسيّ لأوكرانيا مؤشّر إلى ذلك. فهل سيكون بالإمكان تلمّس بداية تململ داخل الكرملين في الربيع المقبل إذا فشل الجيش الروسيّ في تحقيق أيّ تقدّم عسكريّ أو في دفع الغرب إلى المفاوضات؟
بالفعل يمكن أن يكون ذلك ممكناً. لكنّ التململ لا يعني بالضرورة نهاية حكم بوتين في المدى المنظور، تماماً كما أنّ الاستقرار البادي لا يعني أنّه بمأمن من "انقلابات" محتملة مهما كان الشكل الذي تتّخذه بما فيه المخرج السلميّ. فكما كتب تريسمان، "حين تأتي النهاية فعلاً، يميل حتى المراقبون عن كثب إلى أن يتفاجأوا".