وجّه الانسحاب الأميركيّ الكارثيّ من أفغانستان أقسى انتكاسة للرئيس الأميركي جو بايدن في سنته الرئاسيّة الأولى. كانت انتكاسة بفعل تصميمه الخاص على هذه الخطوة مهما كلّفت. حتى اتّفاق الدوحة الذي وقّعه سلفه دونالد ترامب مع حركة "طالبان" في شباط 2020 لم يملِ عليه انسحاباً كهذا. فقد كان بإمكانه أن يلغيه كما ألغى عدداً من الأوامر التنفيذية الصادرة عن ترامب، أو على الأقل، كان بإمكانه إعادة التفاوض حول بنوده. الآن، وبعد قرابة أربعة أشهر على انسحاب آخر جنديّ أميركيّ من أفغانستان، لا يزال بايدن يعيش تداعيات تلك الخطوة سياسيّاً وشعبياً.
تسلسل الأحداث
وصل بايدن إلى البيت الأبيض في 20 كانون الثاني عاقداً العزم على تنفيذ فكرته التي كان مصرّاً عليها منذ تولّيه نيابة الرئاسة في عهد باراك أوباما. قبِل الأخير برفع عدد الجنود الأميركيين في أفغانستان مع إرسال 70 ألف جنديّ إضافيّ إلى هناك سنة 2009 بعكس توصية بايدن. مع ذلك، أعلن أوباما سنة 2014 عن جدول زمنيّ لسحب معظم الجنود الأميركيين بحلول نهاية ولايته في 2016. وبقي قرابة 8000 جنديّ في تلك البلاد حتى وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في كانون الثاني 2017.
استهلّ ترامب ولايته عبر إلقاء أكبر قنبلة غير نووية - "أم كل القنابل" - على شبكة أنفاق لداعش في نانغاهار شرقي البلاد في استعراض للقوّة الأميركيّة. وفي آب 2017، أعلن ترامب استراتيجيته الأفغانية قائلاً إنّه سيربط الانسحاب من أفغانستان بتطوّر الظروف الأمنيّة على الأرض، بالرغم من اعترافه بأنّه كان يؤيّد إنهاء الحرب. وأعلن عن إرسال المزيد من الجنود إلى تلك البلاد.
في أواخر 2018، بدأت واشنطن محادثات مع "طالبان" حتى توصّل الطرفان إلى اتّفاق الدوحة الذي تعهّدت واشنطن بموجبه سحب قوّاتها بحلول 1 أيار 2021 مقابل ضمانات من "طالبان" بعدم تحوّل أفغانستان إلى قاعدة للنشاطات الإرهابية. في ذلك الوقت، كانت واشنطن تحتفظ بنحو 13 ألف جنديّ في أفغانستان. ونصّ الاتفاق أيضاً على بدء الحوار الأفغاني-الأفغاني في آذار. لكنّ الحوار الداخليّ تأخّر حتى أيلول بسبب خلافات سياسيّة داخليّة وبسبب خلاف حول تبادل السجناء. وأعلنت الولايات المتحدة أنّها ستبقي على 2500 جنديّ فقط في كانون الثاني 2021.
في 14 نيسان، أعلن بايدن أنّه سيسحب قوّاته من أفغانستان. وفي 15 آب، انهارت الحكومة الأفغانية بينما دخل مقاتلو "طالبان" القصر الرئاسيّ من دون مقاومة وبعدما هرب الرئيس الأفغاني أشرف غني إلى خارج البلاد. في 26 آب، شنّ داعش هجوماً انتحاريّاً على بوابة المطار مما أدى إلى مقتل 13 جندياً أميركياً و170 مدنياً أفغانياً. ولتتويج الانسحاب الفوضويّ بالمزيد من الأخطاء، شنّت وزارة الدفاع الأميركيّة غارة "انتقاميّة" ضدّ من كان يفترض أنّه مخطّط الهجوم الانتحاريّ فقتلت عشرة أشخاص أبرياء من بينهم أطفال. وفي 31 آب، أنهت الولايات المتحدة أطول حرب في تاريخها.
ترامب أم بايدن؟
تبادل ترامب وبايدن اللوم على الأحداث الدراميّة في أفغانستان. لكنّ الطرفين يتحمّلان المسؤولية عمّا آلت إليه الأحداث. فحوار إدارة ترامب مع "طالبان" همّش حكومة أشرف غني. وإذا كان بايدن قد أخطأ حين حدّد بداية تاريخ إنهاء الانسحاب في 11 أيلول 2021 – الذكرى العشرين للهجمات الإرهابية، فإنّ ترامب أخطأ أيضاً حين كان ينوي دعوة طالبان إلى كمب دايفد في 11 أيلول 2019 للتوقيع على اتفاق سلام مع كابول. تراجع بايدن عن جدوله الزمنيّ بناء على نصائح المقرّبين كما تراجع ترامب عن دعوته عقب مقتل جنديّ أميركيّ في هجوم لطالبان قبل نحو أسبوع على الدعوة.
وسمح الرئيسان لفكرة "إنهاء الحروب التي لا تنتهي" بأن توجّه سياساتهما الأفغانيّة إلى حدّ بعيد. لكنّ هذه الفكرة، إضافة إلى أنّها غير دقيقة، تبرهن أنّ كبار القادة الأميركيّين يصنعون قراراتهم بناء على النظريّات بدلاً من الوقائع. والحرب الأميركيّة في أفغانستان لم تتحوّل إلى "حرب لا تنتهي". صحيح أنّها لم تنجح في بناء دولة، لكنّ أكلافها البشريّة والمادّيّة ضئيلة نسبيّاً بالمقارنة مع طول مدّتها. علاوة على ذلك، شكّلت القوّات الأميركيّة ثلث القوّات الموجودة في أفغانستان خلال السنوات الأخيرة. بالتالي، كان العبء الأمنيّ على واشنطن أقلّ من العبء المفروض على حلفائها الأطلسيّين الذين للمفارقة لم تستشرهم حين قرّرت الانسحاب. أطلق ذلك التوتّرَ الديبلوماسيّ الأوّل بين الأميركيّين والأوروبّيّين، حتى أنّ رئيس الوزراء البريطانيّ بوريس جونسون وصف الرئيس الأميركيّ بـ"جو النعسان" بعدما رفض الردّ على اتّصاله طوال أيّام، وفقاً لتقارير.
كذلك، لم تكن فكرة "إنهاء الحروب التي لا تنتهي" غير شعبيّة بين المواطنين الأميركيّين بالمقدار الذي تخيّله ترامب وبايدن وغيرهما. أظهرت استطلاعات رأي أنّ الأميركيّين أرادوا وضع حدّ لهذه الحروب لكن ليس بالشكل الذي أظهرته الأحداث أو بطريقة قد تجعلهم أقلّ أماناً.
وبرزت انتقادات أيضاً لتعيين واشنطن زلماي خليل زاد موفداً خاصاً للشأن الأفغانيّ: خليل زاد المولود في أفغانستان وذو الجذر البشتونيّ، كما هي حال القاعدة الشعبية لـ"طالبان"، أمكن أن يفهم التفاصيل الدقيقة للسياسات الأفغانيّة. لكنّه روّج لعلاقات عمل مع الحركة قبل 11 أيلول، وقال مؤخّراً إنّ الحركة تغيّرت ولم تعد تخادع كما كانت خلال ولاية بيل كلينتون، وتمتّع بطموحات رئاسيّة في أفغانستان. ومنع إعطاء تأشيرات دخول إلى مسؤولين أفغان للحوار مع الكونغرس. كذلك، دفع خليل زاد باتّجاه الإفراج عن 5 آلاف مقاتل من "طالبان" وهذا أدّى إلى اعتراض شديد من الرئيس الأفغانيّ السابق. حتى أنّه لم يبلغ الإدارة الأميركيّة بجميع التطوّرات وفقاً للبعض. وعلى أيّ حال، كانت التشكيك بطريقة إدارته للملفّ واضحاً منذ سنوات.
وفي آب 2020، نشر مكتب المفتّش العام في وزارة الدفاع (البنتاغون) تقريراً شكّك بادّعاء "طالبان" فكّ ارتباطها مع "القاعدة". وسمح ترامب للحركة بمواصلة "استراتيجية القتال والحوار" في وقت كان يواصل خفض قوّاته في أفغانستان. ولم تصغِ إدارة بايدن إلى "مجموعة دراسات أفغانستان" التي أنشأها الكونغرس والتي أوصت بإدخال تغييرات إلى السياسة الأميركيّة في أفغانستان.
هزيمة مجّانيّة
في تموز 2021، نفى بايدن نفياً قاطعاً وجود نقاط تشابه بين الانسحاب من فيتنام والانسحاب من أفغانستان. نقاط التشابه هي "صفر" كما قال. لكنّ منظر المدنيّين الأفغان وهم متدلّون من الطائرات نقض كلام بايدن. وقتل ما لا يقلّ عن شخصين بعدما سقطا عن الطائرات الأميركيّة المقلعة من كابول.
ولم يأبه بايدن، كما ترامب في السابق، للتقارير الاستخباريّة الكثيرة التي حذّرت من أنّ "طالبان" لا تنوي أن تقطع علاقتها بـ"القاعدة"، والأمر نفسه انطبق على تحذيرات الأمم المتّحدة بهذا الشأن. لكن بالنسبة إلى رئيس وعد خلال حملته الانتخابية بإنهاء الفوضى في صناعة القرار الأميركيّ، قد تكون مسؤوليّاته عمّا حصل في أفغانستان أكبر، خصوصاً مع ارتكابه أخطاء تكتيكية واستراتيجيّة: فهو ألزم نفسه بجدول زمنيّ محدّد وغير مرن للانسحاب، وتخلّى عن خطة طوارئ وضعها سلفه وأخلى قاعدة باغرام الجوية تحت جنح الظلام ممّا أضعف المعنويّات الأفغانيّة المهتزّة أصلاً، وقاد عمليّة إخلاء تدريجيّة بدلاً من أن تكون شاملة ومكثّفة.
كما بنى بايدن سياسته على هدف شبه وحيد: عدم إغضاب "طالبان". علاوة على ذلك، واصل بايدن سياسة ترامب بتهميش الحكومة الأفغانيّة خلال المفاوضات، حتى أنّ وزير خارجيّته أنتوني بلينكن وجّه رسالة تهديديّة إلى غني وصفها البعض بأنّها طريقة يستخدمها الأستاذ مع تلامذته. ومع سحب بايدن حتى المتعاقدين الأميركيّين، خسرت أفغانستان قدرتها على تحريك مقاتلاتها ضدّ عناصر "طالبان" بالنظر إلى اعتماد الطيران الأفغانيّ بشكل كبير على المتعاقدين.
لا يتحمّل بايدن وترامب وحدهما مسؤوليّة الإخفاق الأفغانيّ. لقد عانت الولايات المتحدة منذ احتلالها أفغانستان في فهم تركيبة البلاد التي هي أقرب إلى "تحالف القبائل" منه إلى "دولة-أمّة"، كما فشلت في إيلاء الدعم للمحافظات البعيدة فذهب معظم التمويل إلى العاصمة. وفشلت الولايات المتحدة أيضاً في معاقبة باكستان على دعمها لمقاتلي "طالبان". لكن ما كان مجرّد انسداد أفق للحرب في أفغانستان، تحوّل مع بايدن إلى "هزيمة مجّانيّة" مع إعطاء دفع أكبر للزخم الطالبانيّ بموازاة إحباطه المسؤولين والجنود الأفغان معاً.
خسارة شعبيّة بارزة
بدأت شعبيّة بايدن تتراجع بشكل واضح منذ أواسط آب بسبب أفغانستان. قيل الكثير عن عدم إعطاء الشعب الأميركيّ أولويّة للسياسة الخارجيّة في تقييمه لأداء الرؤساء، لكن ثبت خطأ هذا الادعاء في الملفّ الأفغانيّ. فإضافة إلى خسارة الأميركيّين 13 جنديّاً، راقب هؤلاء للمرّة الأولى مشاهد الخسارة الأميركيّة والفوضى الأفغانيّة بشكل مباشر على الشاشات، بخلاف ما كان عليه الأمر خلال عمليّات الإجلاء في سايغون. قبل سيطرة المشهد الأفغانيّ على وسائل الإعلام الأميركيّة، ظلّ صافي تأييد بايدن (الفرق بين نسبتي المعارضة والموافقة على أدائه) إيجابياً عند +4% تقريباً. لكن منذ 13 آب وحتى 23 آب، دفعت أفغانستان صافي التأييد الشعبيّ لبايدن إلى خانة السلبيّة حتى وصلت إلى ناقص 2.3%. وفي تشرين الأوّل، وصلت نسبة ثقة الأميركيّين بقدرة بايدن على إدارة أزمة دوليّة إلى 37% فقط. علماً أنّه في شباط، وصلت النسبة إلى 60%.
لا شكّ في أنّ بايدن أمِل أن ينسى الأميركيّون الحدث الأفغانيّ سريعاً. لكنّ ذلك لم يحدث. لا يزال صافي تأييد بايدن في خانة السلبيّة مع ناقص 8.7%. ولم يساعد كلام رئيس هيئة الأركان الجنرال فرانك ماكينزي هذا الشهر عن تمتّع واشنطن بقدرة تعادل 1 أو 2% ممّا كانت تملكه سابقاً لضمان ألّا يفرض "داعش" أو "القاعدة" تهديداً على الولايات المتحدة في التخفيف من تداعيات الانسحاب الفوضويّ. ومع التخوّف من أزمات أخرى في أوكرانيا أو تايوان أو الشرق الأوسط بسبب "الضعف" الذي أظهره بايدن في آب الماضي وفقاً لتعبير "فايننشال تايمس"، يبدو أنّ شبح أفغانستان السياسيّ والشعبيّ سيطارد بايدن في 2022.