النهار

جونسون يحجّم الاتحاد الأوروبي لإنقاذ أوكرانيا؟
جورج عيسى
المصدر: "النهار"
"كومنولث أوروبي" بقيادة لندن قد يضعف الاتحاد الأوروبي
جونسون يحجّم الاتحاد الأوروبي لإنقاذ أوكرانيا؟
رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسيكي، كييف 9 نيسان 2022 - "أ ب"
A+   A-

مقابل الصدام العسكريّ بين روسيا وأوكرانيا، يبدو أنّ ثمّة صداماً سياسيّاً بين بريطانيا وبروكسل. وأسباب هذا الصدام أبعد من مفاعيل "بريكست". إذا كانت روسيا تريد تجزئة بعض الأراضي الأوكرانيّة وضمّها إليها، فبريطانيا، وبحسب تقرير صحافيّ، تريد رسم خريطة سياسية أوروبية جديدة.

منذ أسبوع، ذكرت صحيفة "كورييري دي لا سيرا" الإيطالية أنّ رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون يسعى إلى تشكيل نظام جديد من التحالفات السياسية والاقتصادية والعسكرية بديلة عن الاتحاد الأوروبي. يجمع هذا النظام دولاً لا تثق ببروكسل ولا بردّ ألمانيا على الاعتداء الروسي.

 

في التفاصيل

تشير الصحيفة الإيطالية إلى أنّ جونسون كان يعمل على تفعيل هذه الفكرة منذ أكثر من شهر وقدّمها للمرّة الأولى إلى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي حين زار كييف في التاسع من نيسان. يسعى جونسون إلى "كومنولث أوروبي" تقوده لندن ويشمل أوكرانيا وبولونيا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا وربّما تركيا في وقت لاحق. ومنذ الزيارة، أصبحت المحادثات أكثر تفصيلاً. نقلت الصحيفة خلال منتدى دافوس عن أشخاص مطّلعين من خارج لندن قولهم إنّ جونسون يقترح تحالفاً بين دول حريصة على سيادتها الوطنية وليبيرالية التوجه الاقتصادي ومصممة إلى أقصى درجات العناد على مواجهة التهديد العسكري لموسكو.

أضاف التقرير أنّ حكومة كييف لم تتّخذ موقفاً من المبادرة البريطانية لكنّها لم ترفضها. باتت القيادة في أوكرانيا تدرك أنّ ألمانيا وفرنسا غير مقتنعتين بإمكانية هزيمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. لهذا السبب، ينتظر زيلينسكي موعد 23 حزيران ليرى ما إذا كان الأوروبيون سيعترفون بوضع أوكرانيا كـ"مرشح" لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي. في حال الرفض، سيدرس زيلينسكي مقترح جونسون بجدية أكبر.

والرفض في هذه الحالة مرجّح. ليس فقط لأنّ ذلك سيثير حفيظة دول أخرى مثل ألبانيا وشمال مقدونيا اللتين انتظرتا طويلاً للحصول على وضع "المرشّح" كما تقول الصحيفة. على الرغم من أنّهما لا تقولان ذلك علناً، لا تريد فرنسا وألمانيا إغضاب بوتين. فانضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي يثير حفيظة الروس إلى حدّ بعيد، وإن كان التركيز العالمي ينصبّ على قضيّة احتمال انضمام أوكرانيا إلى الناتو كأحد أسباب الحرب. وثمّة أسباب أخرى للتردّد من بينها أنّ قوى أوروبية تخشى منح أوكرانيا عضوية الاتحاد ثمّ تندم لاحقاً إذا تراجعت كييف عن احترام بعض القيم الأوروبية، كما كانت الحال مع بولونيا مثلاً، وفقاً لاتّهامات صادرة من بروكسل.

 

خلاف عمره... آلاف السنين

رأت الصحيفة أنّ الحرب على أوكرانيا بدأت تفتح التفسّخات السياسيّة الأولى في أوروبا. لكن لا يمكن استبعاد الاحتمال المعاكس أيضاً: التفسّخات السياسيّة كانت دوماً حاضرة في أوروبا وما فعلته الحرب على أوكرانيا هو مجرّد إظهارها إلى العلن.

يمكن إرجاع الخلاف بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى التوتّرات التي واجهها الطرفان خلال التفاوض حول بريكست وبعد إبرام الاتفاق. لكن كما يوضح كتاب "الجغرافيا قدر: بريطانيا والعالم – 10 آلاف سنة من التاريخ" للمؤرّخ البريطانيّ إيان موريس (مراجعة صحيفة "وول ستريت جورنال")، يعود الخلاف إلى آلاف السنين.

رأى موريس أنّ الفهم الحقيقيّ للخلافات بين الطرفين يجب أن يبدأ منذ 10 آلاف سنة "منذ أن بدأ ارتفاع المحيطات في ما بعد العصر الجليدي يفصل مادياً الجزر البريطانية عن القارة الأوروبية". عندها يمكن المراقبين رؤية "أنماط أكبر قادت، وتواصل قيادة، التاريخ البريطاني". منذ ذلك الحين، سادت "الجزيرويّة" وطبعت الوعي البريطانيّ. طوال أكثر من 97% من تاريخها، كانت بريطانيا ابنة عم أوروبا الفقيرة. تظهر خريطة من العام 1300 تقريباً مدينة القدس مركز العالم والجزر البريطانية مضغوطة في أدنى يسارها.

وأظهر المؤرّخ في كتابه، وفقاً للمراجعة نفسها، أمثلة تبيّن كيف عمل البريطانيون على فصل أنفسهم عن أوروبا، وعادة بالقوة، مثل تدمير حامية رومانية في مدينة كولشستر على يد ملكة قبيلة بريطانية تدعى بوديكا. بعد تدمير الحامية، سأل البريطانيون أنفسهم سؤالاً شبيهاً بذاك الذي طرحوه بعد بريكست: "ما التالي؟" وتحدّث الكاتب عن "إنكلكسيت" حين سحب هنري الثامن بريطانيا من "الاتحاد الأوروبي الكاثوليكي". ومع الانفتاح على العالم الجديد، استبدلت بريطانيا "دورها الداعم" على حدود أوروبا بـ"الدور القيادي" على المسرح الأطلسيّ. لقد "أصبحت الجزيرة الحصن ملكاً عالمياً أعلى".

 

ما الذي يريده جونسون؟

قد يكون جونسون راغباً في استعادة الدور "الملكي" لبلاده على العالم، (كملك بين الملوك على الأقلّ) بعدما تراجع دور بريطانيا عقب الحرب العالمية الثانية. لا شكّ في أنّ الحرب على أوكرانيا تؤمّن ظرفاً مثاليّاً لذلك. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى نقطتين أخريين تلفت النظر إليهما " كوريري دي لا سيرا". أمّنت لندن مساعدات عسكريّة إلى أوكرانيا أكبر حجماً من تلك التي وفّرها كامل الاتحاد الأوروبي. ومساعدات بولونيا لأوكرانيا تفوق مساعدات ألمانيا وفرنسا وإيطاليا. النقطة الثانية هي أنّ لندن لا تملك إمكانات بروكسل المالية لدعم أوكرنيا كما أنّ بولونيا ودول البلطيق قد لا تنخرط في مبادرة يمكن أن تقوّض العلاقات مع بروكسل.

يمكن إضافة نقطة أخرى وهي حجم الشكّ المحيط بإمكانية انضمام تركيا إلى مبادرة "معادية" لروسيا، بالنظر إلى محاولتها لعب دور الوسيط بين أوكرانيا وروسيا وإلى تقربها من روسيا خلال الأعوام الستة الماضية.

إلى الآن، يبدو "الكومنولث الأوروبي"، إن صحّت معلومات الصحيفة الإيطالية (خبرها لم يلقَ تغطية أوروبية كبيرة)، أقرب إلى فكرة منه إلى مبادرة. هي مجموعة أوراق قد يستفيد منها جونسون وربّما زيلينسكي في خلافاتهما السياسية والتجارية مع الاتحاد الأوروبي: زيلينسكي يريد حصول بلاده على صفة "مرشّح" إلى الاتحاد الأوروبي، وجونسون يريد إدخال تعديلات على "بروتوكول إيرلندا الشمالية". معرفة مدى نجاح كل منهما في تحقيق أهدافه رهن الأسابيع القليلة المقبلة. على المدى البعيد، ربّما تتحوّل هذه الفكرة، أو ما يشبهها، إلى خطّة مطروحة على طاولة البحث.  

فمبادرة "الكومنولث الأوروبي" في خطوطها الواسعة قد تمثّل في نهاية المطاف طموحاً بريطانياً استراتيجياً على أراضي القارة الأوروبية. لن يكون هذا الطموح جديداً. يبدو أنّ القارّة تشهد "صراع طموحات" مع رغبة الرئيس إيمانويل ماكرون بتأسيس "مشروع استقلالي" بقيادة باريس، يبعد أوروبا عن واشنطن. الحرب على أوكرانيا قد تكشف الكثير من المشاريع المشابهة، في وقت تحدّث البعض عن "فراغ" قياديّ داخل القارة العجوز.

اقرأ في النهار Premium