النهار

الناتو من "الأورو-أطلسيّة" إلى "العالميّة"؟
جورج عيسى
المصدر: "النهار"
"اتجاه" نحو تحوّل الناتو إلى "تكتّل عسكريّ دوليّ"
الناتو من "الأورو-أطلسيّة" إلى "العالميّة"؟
طائرات مقاتلة من طراز F / A-18 هورنت على سطح حاملة الطائرات الأميركيّة من طراز نيميتز التي تعمل على الطاقة النووية (أ ف ب).
A+   A-

إن كان الحديث عن توسّع حلف شمال الأطلسيّ (ناتو) قد تصدّر واجهة التحليلات السياسية بعد الغزو الروسيّ لأوكرانيا، فإنّه بالتأكيد ارتقى إلى مستوى جديد من المقاربة، بعد طلب السويد وفنلندا بشكل رسميّ الانضمام إليه. تخلّي الدولتين في غضون أشهر قليلة عن عقود من الحياد يمكّن المراقبين سريعاً من استنتاج الأهمّيّة المتزايدة لمظلّة الناتو الأمنيّة.

بينما كان العديد من المراقبين والسياسيّين يروّجون لفكرة انتهاء صلاحيّة الحلف، بمجرّد انتهاء الظروف التي استوجبت قيامه، أثبتت السويد وفنلندا عكس ذلك. ودخل عامل جديد إلى المعادلة: سويسرا. إنّ قرار جنيف دراسة إمكانيّة زيادة تعاونها الأمنيّ مع الناتو يواصل خلط أوراق الهيكليّة الأمنيّة في أوروبا، ومرّة أخرى، لصالح الحلف.

 

"تكتّل عسكريّ دوليّ"

لا يمكن استبعاد تشكّل ملامح أوّليّة لحقبة جديدة دخلها الحلف الأطلسيّ. حتى مراقبون روس يتوقّعون استمرار توسّع الحلف بوتيرة أعلى. يمكن أن يحصل ذلك على مستوى توسّع العضويّة أو على مستوى توسّع الدور وشبكة العلاقات مع الشركاء. في نهاية المطاف، وعلى الرغم من القرار شبه المفاجئ للسويد وفنلندا، يبقى أنّهما أقامتا علاقات تعاون مع الحلف في السنوات القليلة الماضية قبل الإقدام على الخطوة الأخيرة. بالمقابل، ومع أنّ انضمام سويسرا إلى الناتو ليس متوقّعاً في المدى المنظور، يقدّم توطيد العلاقة الأمنيّة معه مؤشّراً إلى الجاذبيّة التي لا يزال يتمتّع بها حتّى بالنسبة إلى الدول الأكثر حرصاً على الاحتفاظ بحيادها الطويل الأمد. سويسرا هي الأخرى تحافظ على حيادها منذ أكثر من مئتي عام.

في النظرة إلى دور الحلف المستقبليّ، رأى أستاذ العلاقات الدولية في جامعة سانت بطرسبرغ الرسميّة قسطنطين خودولي أنّ "الاتّجاه نحو تحوّل الناتو إلى تكتّل عسكريّ دوليّ من المرجّح أن يصبح أكثر حدّة". وكتب منذ ثلاثة أيّام في مؤسّسة الرأي الروسيّة "نادي فالداي" أنّه "من الصعب الآن تسمية الدول التي سوف تريد في المستقبل الانضمام إلى الناتو، والتي سيكون التكتل جاهزاً لقبولها في عضويته... (لكن) على الأغلب، إنّ التوسّع الحاليّ للناتو لن يكون الأخير". يفتح هذا التحليل باب التفكير في "عالميّة" الناتو على مصراعيه.

 

فكرة جديدة؟

تتخطّى هذه "العالميّة" الطموح الجغرافيّ الذي رسمه الناتو حتّى في الاسم الذي تبنّاه: ما كان جامعاً لدول واقعة على ضفّتي شمال المحيط الأطلسيّ، يمكن نظريّاً ومع بعض التعديلات، أن يتوسّع ليشمل دولاً في آسيا، أو حتى في جنوب المحيط الأطلسيّ. ليست هذه الأفكار مجرّد تكهّنات بحتة. الرئيس الأميركيّ السابق دونالد ترامب اقترح فكرة ضمّ البرازيل إلى حلف شمال الأطلسيّ حين استقبل رئيسها جايير بولسونارو سنة 2019.

لم تتحقّق هذه الفكرة لسببين على الأقلّ: الأول أنّ المادّة العاشرة من المعاهدة تنصّ على حصر العضويّة بالدول الأوروبية، وهذا ما ذكّره به الفرنسيّون. والسبب الثاني أنّ الولايات المتّحدة كانت تفكّر تحديداً في جعل البرازيل "شريكاً عالميّاً" للحلف تماماً كما هي الحال مع كولومبيا التي كانت أوّل دولة من أميركا اللاتينيّة تحصل على هذه الصفة. وثمّة "شركاء دوليّون" للحلف في قارات أخرى مثل اليابان ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية والعراق وغيرها. وللحلف شراكات أيضاً من خلال هيكليّات جماعيّة مثل "مبادرة اسطنبول للتعاون" و"حوار الناتو المتوسّطيّ" وغيرهما.

بالتالي، إنّ "عالميّة" الحلف ليست فكرة جديدة، لكنّ القرارات الأخيرة للسويد وفنلندا وسويسرا أعطتها زخماً جديداً. والطبيعة الجامعة للحلف الأطلسيّ تجعل السؤال عن مدى تعزيز "عالميّته" أكثر إلحاحاً. لقد كان هناك اعتراف منذ أكثر من عقد بأنّ الحلف متّحد بقيمه ومصالحه الطويلة المدى أكثر من اتّحاده بفعل السياسة والحاجات الأمنيّة المباشرة لأعضائه، بالمقارنة مع ما درجت عليه العادة. بالتالي، إن كانت القيم هي أبرز ما يجمع الدول الأعضاء فقد يفتح النقاش في المستقبل عن جدوى استمرار صلاحيّة المادّة العاشرة من معاهدة التأسيس. وسبق أن برزت أصوات داخل الحلف تطالب بتبنّي الناتو نظرة عالميّة جديدة. من على منبر "مؤتمر ميونيخ للأمن" في فبراير (شباط) الماضي، وقبل بعضة أيّام على انطلاق الغزو الروسيّ لأوكرانيا، طالب رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بتوسيع النطاق الجغرافيّ للناتو وبضرورة أن ينظر الحلف إلى ما هو أبعد من أوروبا و"أن يدرس ما يحصل حول العالم".

مع ذلك، ثمّة مطبّات عديدة أمام استمرار موجات التوسّع الأطلسيّ أكانت داخل أوروبا، وبشكل أقلّ احتمالاً خارجها. منذ فترات طويلة، سادت مخاوف بشأن تعطّل عمليّة صناعة القرار مع ازدياد عدد الأعضاء في الحلف كما بشأن "الاستفزاز" الذي يمكن أن تثيره. وقدرة تركيا على التهديد بعرقلة مسار انضمام السويد وفنلندا إلى الحلف تظهر أيضاً أنّ التطلّعات والمصالح داخل الحلف ليست دوماً متجانسة، بل أحياناً متناقضة. كما أنّ توسّع الناتو نحو منطقة "الإندو-باسيفيك" التي كان يلمّح إليها جونسون قد يصطدم بغياب رغبة داخليّة بفتح جبهة صراع جديدة مع الصين. كما لا يمكن التقليل من الخلافات الداخليّة الناجمة عن طريقة انسحاب واشنطن من أفغانستان، وطريقة صياغتها تحالف "أوكوس"، والتي قد تترك أثرها على صياغة القرارات المستقبليّة المحتملة بشأن جعل الناتو أكثر "عالميّة".

 

يستحقّ التوقّف عنده

مجرّدُ أن يكون النقاش حول إيجابيّات/سلبيّات توسيع دور الناتو حيويّاً إلى هذه الدرجة بعد عقود على سقوط الاتّحاد السوفياتيّ هو علامة مميّزة بالنسبة إلى حلف قلّما وجد منافساً له بين الأحلاف والمنظّمات الدوليّة على مستوى الديمومة كما على مستوى الفاعلية. ليس أمراً ثانويّاً أنّه في اللحظة الوحيدة التي أعلن فيها الحلف تفعيل المادّة الخامسة في تاريخه بعد هجمات 11 أيلول، كانت أستراليا تشاركه في عمليّاته العسكريّة داخل أفغانستان، بالرغم من أنّها ليست عضواً فيه بل "شريكاً دوليّاً" له. يؤكّد ذلك مجدّداً أنّ "عالميّة" الناتو هي أكثر من فكرة مجرّدة، وإن كانت قابلة للتطوير أكثر لو توفّرت الرغبة بذلك.

بعد سنتين، يدخل الحلف عامه الخامس والسبعين حيث من المرجّح أن يكون قد رحّب بعضوين جديدين في صفوفه. أن يواصل الحلف التوسّع، بالرغم من كلّ التباينات الداخلية والانتقادات الخارجية وبالرغم من مرور كلّ هذه السنوات على تأسيسه، أمر يستحقّ دوماً التوقّف عنده.

 

*نُقل عن الـ"النهار العربي"

اقرأ في النهار Premium