حملت بداية 2021 تفاؤلاً حذراً بالنسبة إلى إيران. أكّدت مصادقة الكونغرس على نتائج الانتخابات الرئاسية هزيمة الرئيس دونالد ترامب ومعه "حملة الضغط الأقصى" التي دمّرت الاقتصاد الإيرانيّ. بالمقابل، دخلت إيران 2021 وهي تتذكّر اغتيال القائد السابق لـ"قوة القدس" ومهندس نفوذها الإقليمي قاسم سليماني. شكّل الحدث منعطفاً سلبيّاً لإيران أضيفت إليه ضربة قاسية أخرى تمثّلت في اغتيال كبير علمائها النوويين محسن فخري زاده في تشرين الثاني 2020.
وإذا كانت إيران قد اكتفت بإطلاق بضعة صواريخ على قاعدتين عسكريتين أميركيتين في العراق رداً على اغتيال سليماني، فإنّها تفادت أيّ تصعيد عسكريّ انتقاماً لاغتيال فخري زاده. هي لم تكن في وارد خلط الأوراق مجدداً على بعد أسابيع قليلة من دخول بايدن البيت الأبيض وعمله على إحياء الاتفاق النووي كما وعد في حملته الانتخابية. مع ذلك، ردّت إيران عبر تصعيد برنامجها النوويّ. ومن هنا، بدأت طهران حملتها المضادّة في فرض حملة ضغط أقصى على الرئيس الجديد والتي يبدو أنّها أتقنت إدارتها إلى حدّ بعيد.
بداية التصعيد
في كانون الثاني، أعلنت إيران عن تخصيب اليورانيوم إلى نسبة 20% وهي نسبة مرتفعة على الصعيد التقنيّ. كان الاتفاق النووي قد سمح بسقف تخصيبيّ لليورانيوم يصل إلى 3.67%. وأتى التخصيب في منشأة فوردو المحصّنة والتي منع الاتّفاق أيّ نشاط تخصيبيّ فيها. بالتالي، كان انتهاك إيران لواجباتها النوويّة مضاعفاً. هدفت تلك الخطوة إلى تنفيذ قانون "الإجراء الاستراتيجيّ لإلغاء العقوبات" والذي أصدره مجلس الشورى (البرلمان) ردّاً على اغتيال فخري زاده. لكنّه وفي الوقت نفسه كان يهدف إلى دفع الرئيس الأميركي الجديد نحو العودة السريعة إلى الاتفاق النووي خصوصاً أنّ وعوده الانتخابيّة أظهرت عدم رغبته بالتصعيد. نصّ القانون أيضاً على وقف التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وهذا ما حصل إلى حدّ كبير.
ففي شباط، حدّت إيران من قدرة الوكالة على الوصول إلى المواقع النووية التي كانت تراقبها بموجب اتفاق 2015. وفي 21 شباط، سمح اتّفاق توصّل إليه الطرفان بمواصلة بعض عمليّات التفتيش. لكنّ إيران رفضت منذ ذلك الوقت تسليم تسجيلات الكاميرات في منشآتها النووية، لكنّها تراجعت عن تهديد سابق بمحوها. وقالت إيران إنّها لن تسلّم هذه التسجيلات قبل العودة إلى الاتفاق النووي ورفع العقوبات عنها. وامتنعت إيران عن تنفيذ البروتوكول الإضافيّ ممّا حرم الوكالة من إمكانيّة إجراء تنفيذ عمليات تفتيش مفاجئة في المواقع النوويّة المشتبه بها والتي لم تعلن إيران عنها مسبقاً.
وأعلنت الوكالة أنّ إيران بدأت في 7 آذار تخصيب اليورانيوم في سلسلة ثالثة من أجهزة الطرد المركزي المتطورة (آي آر 2 أم) في منشأة نطنز بحدود 5%. وفيما سمح الاتفاق النووي باستخدام إيران أجهزة الطرد من الجيل الأوّل (آي آر 1)، بدأت إيران استخدام الجيل الأحدث في عمليّات التخصيب منذ تشرين الثاني 2020. وفي نيسان، قالت إيران إنّها تخصّب اليورانيوم حتى نسبة نقاء تصل إلى 60%، ممّا يضعها على مسافة قريبة جداً من نسبة الـ90% المخصّصة لأغراض التسليح.
في الشهر نفسه، انطلقت محادثات فيينا غير المباشرة لإعادة إحياء الاتفاق النووي. وعقدت إيران محادثات منفصلة مع الدول الأعضاء في الاتفاق بينما لم تتفاوض مع الديبلوماسييين الأميركيّين. وعُقدت في نيسان ثلاث جولات تفاوضية انتهت في 1 أيار. على الرغم من كلّ التصعيد النوويّ الإيرانيّ، قبلت الولايات المتحدة بالعودة إلى فيينا وبعدم التفاوض بشكل مباشر مع الإيرانيّين، الأمر الذي عزّز انطباعاً لدى طهران بأنّ الإدارة الحاليّة "متلهّفة" للعودة إلى الاتّفاق. بالمقابل، قبلت إيران في أيار بتمديد اتفاقية تسمح لمفتّشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بوضع كاميرات مراقبة في مواقع نووية، في سياق ما سمّته "بادرة حسن نية" تتزامن مع استمرار محادثات فيينا. وشهد أيّار جولتين من المحادثات انتهت الثانية في 2 حزيران.
بالتوازي مع استمرار المحادثات، عمدت إيران إلى تسريع برنامجها النوويّ. في أواخر أيار، ذكرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أنّ مخزون إيران من اليورانيوم المخصّب زاد 16 مرّة عن الكمية التي سمح بها الاتّفاق النوويّ. وذكرت أيضاً أنّها لم تحصل على البيانات اللازمة لمراقبة البرنامج النووي منذ تعليق البروتوكول الإضافي في شباط. وفي حزيران، وصل المتشدّد ابرهيم رئيسي إلى الرئاسة وتوقّفت معه المفاوضات النوويّة عند الجولة السادسة بنتظار استلامه منصبه في آب وإجراء حكومته مراجعة لسياستها النوويّة.
في تمّوز، أعلنت الوكالة أنّ إيران بدأت بالفعل إنتاج معدن اليورانيوم المخصّب. ويستخدم المعدن في صناعة الرؤوس النوويّة. وقالت مجموعة الثلاث الأوروبية (ألمانيا، فرنسا، المملكة المتحدة) إنّ هذه الخطوة تهدّد إحياء المفاوضات. وفي آب، أنتجت إيران 200 غرام من هذا المعدن. وفي أواخر الشهر نفسه، أعلن بايدن أمام ضيفه رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت إنّ بلاده "مستعدّة للتحوّل إلى خيارات أخرى" في حال أخفقت الديبلوماسيّة بالوصول إلى حلّ. في أيلول، سمحت إيران لمفتّشي الوكالة بالصيانة الفنّيّة والتقنيّة لأجهزة المراقبة واستبدال بطاقات الذاكرة لهذه الأجهزة على أن تُحفظ في إيران. وواصلت إيران رفض اطّلاع الوكالة على تسجيلات الكاميرات.
في الشهر نفسه، أصدر "معهد العلوم والأمن الدولي" تقريراً وجد فيه أنّ تخصيب إيران اليورانيوم بنسبة نقاء تصل إلى 60% مكّن إيران من إنتاج وقود لقنبلة واحدة "في غضون شهر واحد". وفي تشرين الأوّل، قالت طهران إنّها مستعدّة لاستئناف الحوار في فيينا، وهذا ما حصل حين استؤنفت الجولة السابعة من المفاوضات في 29 تشرين الثاني بعد توقّف دام أكثر من خمسة أشهر.
التصعيد يتواصل
بعد ثلاثة أيّام على انطلاق المفاوضات، بدأت إيران تخصّب اليورانيوم في منشأة فوردو مستخدمة سلسلة من أجهزة الطرد المتطوّرة (آي آر 6) والقادرة على تخصيب اليورانيوم بسرعة أكبر بخمس مرات من السرعة التي أمّنها الجيل الأوّل من أجهزة الطرد. وفاعليّة هذه الأجهزة تكمن في أنّها تساهم بإعطاء إيران مزيّة "التسلّل" إلى صناعة القنبلة النوويّة، عبر تقصير المسافة الزمنيّة الفاصلة عن الخرق النوويّ بما يحتّم تقليص قدرة الوكالة الدولية على الرقابة.
في الواقع، عادت إيران إلى فيينا مع مبدأ تفاوضيّ جديد. هي أرادت إلغاء كامل العقوبات النووية المفروضة بعد الاتفاق النووي، أي تلك التي لم تُستثنَ بموجب الاتفاق النووي مثل تلك المتّصلة بحقوق الإنسان. واعترضت أيضاً على مفهوم "الامتثال المتبادل" الذي "لا يمكن أن يشكّل قاعدة مناسبة للمفاوضات" بما أنّ واشنطن هي التي غادرت أوّلاً الاتفاق النووي وفقاً لكلام كبير المفاوضين الإيرانيين علي باقري كني. كما طالبت طهران بتعويضات بسبب انسحاب ترامب من الاتفاق النووي وبضمانات بعدم تكرار خطوة كهذه في المستقبل. في هذه الأثناء، واصلت واشنطن والدول الأوروبية تحذيرها من "نفاد الوقت" أمام إيران من دون إقران تحذيرها بأيّ إجراء ميدانيّ. وقال الأوروبيون إنّ إيران تقدّمت بمقترحات "لا تتماشى" مع الاتفاق النووي.
وساد التشاؤم المسؤولين الغربيّين طوال شهر كانون الأوّل. قالت وزارة الخارجية الأميركية الثلاثاء إنّ واشنطن ترى أنّه من السابق لأوانه تحديد مدى أهمية أيّ تقدم تمّ إحرازه في الجولة الأخيرة من المفاوضات التي انطلقت الاثنين. وكان وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان قد أعلن الثلاثاء أنّ المفاوضات تمضي في مسار جيّد. لكن لم تكن هذه المرّة الأولى التي يصف فيها الديبلوماسيون الإيرانيون المسار التفاوضي بإيجابية من دون أن تنعكس هذه الإيجابيّة في مواقف الأطراف الغربيّة.
إيران أكثر ارتياحاً
في نهاية 2021، تبدو إيران في موقف تفاوضيّ أكثر ارتياحاً من موقف واشنطن. فهي تقترب من العتبة النووية مع تقديرات تشير إلى أنّها تبعد أقلّ من شهر عن الخرق النوويّ. وقدّمت واشنطن تنازلات كثيرة لإيران من دون أن تلقى خطوات إيجابيّة بالمقابل. فهي امتنعت في غالب الأحيان عن الردّ على الصواريخ التي تستهدف مصالحها في سوريا والعراق، كما رفعت الحوثيين عن لائحة الإرهاب في شباط. وغضّت الطرف عن تنفيذ العقوبات النفطيّة فارتفعت احتياطات طهران من العملات الصعبة من 4 مليار دولار في نهاية 2020 إلى أكثر من 30 ملياراً في نهاية 2021. وفشلت واشنطن والدول الأوروبية في دعم الوكالة الدولية للطاقة الذرية وفي إدانة طهران لانتهاكها ضمانات عدم الانتشار في الاجتماعات الدولية لمجلس المحافظين التابع للوكالة الأممية نفسها. ولم تقدّم طهران "أجوبة تقنية مقنعة" للوكالة عن مواد مشعة في منشآت لم تعلن عنها بحسب تقرير نشرته في تشرين الثاني. وفي حزيران، سحبت الولايات المتحدة أصولاً عسكرية من الشرق الأوسط. الخطوات التصعيديّة المحدودة التي اتّخذتها واشنطن تمثّلت في فرض عقوبات على من اتهمتهم بانتهاك حقوق الإنسان في إيران وعلى مصنّعي الطائرات المسيّرة التي استهدفت قواعدها إضافة إلى إجراءات أخرى بحقّ وكلائها في المنطقة.
كلّما طالت العودة إلى الاتفاق النوويّ انخفضت فائدته بما أنّ قيوده النووية ستبدأ بالانتهاء بدءاً من سنة 2026. وقد يكون السبيل الوحيد إلى الحلّ هو اتفاق "الأقل مقابل الأقل" حيث تبطئ إيران تخصيبها مقابل رفع حزمة صغيرة من العقوبات تمهيداً لاتفاق نهائيّ في موعد لاحق. لكن قلّة تتوقّع نجاح التوصّل إلى هذا الاتفاق الأشمل. لقد وعد بايدن بالعودة إلى اتفاق 2015 واستخدامه كمنصّة لاتّفاق مستقبليّ أطول مدّة وأوسع قيوداً ليشمل سلوك إيران الإقليميّ وبرنامجها الصاروخيّ البالستيّ. اليوم، تراجع هذا الطموح إلى حدّ بعيد. بالكاد تستطيع واشنطن ضمان التوصّل إلى اتّفاق "الأقلّ مقابل الأقلّ" الذي يعدّ أساساً تنازلاً أميركيّاً كبيراً لصالح إيران خصوصاً إذا شمل رفع العقوبات القطاع النفطيّ الإيرانيّ.
تحتاج إيران بعد تحقيق "الخرق النوويّ" أي إنتاج ما يكفي من المواد الانشطاريّة لغرض التسليح بين عام ونصف وعامين لتصنيع أوّل قنبلة نوويّة. لكنّ تحقيق الخرق النوويّ وحده كافٍ ليقلب الاستراتيجيّة الأميركيّة من واحدة تتعامل على أساس منع إيران من أن تصبح دولة نووية إلى أخرى تتعامل معها على أساس أنّها باتت فعلاً دولة نوويّة. وعلى أيّ حال، اكتسبت إيران هذه السنة خبرة تخصيبية لا يمكن أيّ اتّفاق إلغاؤها. هل يستطيع بايدن وقف إيران عن هذا التقدّم السريع؟
كلّ ما قدّمته واشنطن لغاية اليوم هو الحديث عن "خطّة باء" مجهولة التفاصيل وعن اقتراب إغلاق نافذة الفرصة المتاحة أمام الطرفين لإحياء الاتفاق النووي. لكنّ السفير الإيرانيّ في لندن محسن بهاروند يقول: "لن نقبل بالتهديدات... إذا كانت النافذة تضيق، فليكن".