النائب وائل أبو فاعور
لم يخفِ وليد جنبلاط شعوره بالخجل عندما رأى جنازة أحد الجنود القتلى الدروز ملفوفة بعلم دولة الاحتلال، وخلفها صورة كبيرة لكمال جنبلاط وسلطان باشا الأطرش. والحقيقة أن الصورة تعبّر خير تعبير عن حقيقة الانقسام داخل المجتمع العربي الدرزي في فلسطين المحتلة عام ١٩٤٨، إذ إن التشييع الذي كان يجري في بلدة "بيت جن" الفلسطينية لضابط قتيل ملفوف بعلم الاحتلال صودف مرور جنازته أمام مقرّ "حركة التواصل الوطني الفلسطيني"، التي يترأسها المحامي سعيد نفاع، والتي تناضل منذ سنوات طويلة لرفض التجنيد الإجباري ولإعلاء الهوية العربية لدروز الداخل المحتل، والتي ترفع صورتي كمال جنبلاط وسلطان الأطرش عنواناً ومثالاً لها، وهو تعبير صارخ وصادق عن انقسام في المجتمع العربي الدرزي، قام ولا يزال، منذ نشوء دولة الاحتلال.
لم توفر المؤسسة الصهيونية خبثاً ولا تآمراً لم تستعمله مع دروز فلسطين منذ ما قبل نشوء الكيان الصهيوني، وهو ما يرد جلياً في أرشيف جيش الاحتلال ووزارة خارجيته والأرشيف الصهيوني المركزي وأرشيف عصابات الهاغانا وأرشيف الوكالة اليهودية ووزارة الأقليات والخارجية البريطانية، من فكرة الترحيل إلى الأردن التي رفضها سلطان باشا الاطرش، إلى فكرة الاستفراد بمجتمع فلاحيّ زراعيّ بسيط ومنعزل، لم يتجاوز عدده الـ ١٤ ألفاً في العام الذي نشأت فيه دولة الاحتلال الإسرائيلي.
صعّدت إسرائيل مخاوف الدروز من محيطهم وصراعاتهم العشائرية، وأبرزها مع محيطهم من البدو، فضمنت أحياناً إذعان قرية درزية بكاملها برخصة مسدس، واستمرّت في عملها المنظم لأسرلة الدروز (والتعبير للمفكّر عزمي بشارة) وتدمير هويتهم الفلسطينية أولاً، والعربية والإسلامية ثانياً، في ترتيب الهويات المتداخلة وغير المنفصلة. وليس بسيطاً أن دروز فلسطين شغلوا موقعاً في عقلي بن غوريون وحاييم وايزمان الخبيثين، والوكالة اليهودية ووزارة المستوطنات البريطانية، كما يكشف الكاتب الراحل قيس فرو في كتابه (زمن الغفلة، دروز فلسطين من المحراث الفلسطيني إلى البندقية الإسرائيلية).
ليس من باب التبرير القول إن ما تعرض له دروز فلسطين من قبل المؤسسة الصهيونية كان فريداً من حيث عمق التخطيط وخبثه والتآمر، فمن مصادرة الأراضي التي بلغت حدود الـ ٦٨ في المئة من مجموع الأراضي؛ وكلّنا يعلم معنى أن تنتزع من مجتمع زراعيّ أرضه وسبل عيشه وبقائه، إلى إعفاء كل العرب من التجنيد الإجباري، باستثناء العرب الدروز، الذين فرضت عليهم تلك الخدمة الإلزامية عام ١٩٥٦، وإقفال كل أبواب الرزق، وفتح باب الخدمة العسكرية، وربط هذا المجتمع عضوياً بالخدمة العسكرية لدولة الاحتلال.
ولا يخفى على عارف الدور الخطير والتدميري الذي أدّاه الحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح) في اجتذاب دروز الداخل إلى صراعات مطلبيّة، كان الهدف منها إيهامهم بأن القضية هي قضية طبقيّة ومطالبات اجتماعية وليست قضية انتماء قوميّ يجري تهشيمه وتهديمه بكلّ إجراء، حتى في المناهج الدراسية التي خصصت للدروز، كمثل الفيزياء للدروز، والكيمياء للدروز، والأدب للدروز، إمعاناً في مشروع فصلهم عن انتمائهم الذي بلغ ذروته في بطاقة التعريف الصادرة عن سلطات الاحتلال، التي تصنف قانوناً الدروز كقومية مستقلّة، بناء على قرار وزير الأديان عام ١٩٥٧، وما تبع ذلك من اختلاق تراث درزي مزعوم ومستقلّ عن التراث العربي والإسلامي، وإلغاء الأعياد والمناسبات الدينية، كعيد الفطر، وابتداع مناسبات لا أساس لها دينياً وتاريخياً.
لم يكن لدى المجتمع الزراعي الدرزي مركز مدينة يصوغون فيه هويتهم المشتركة مع سائر أبناء شعبهم الفلسطيني؛ وتداعي هذه الهوية المشتركة مع أبناء الضفة وغزة هو الذي دفع الرئيس وليد جنبلاط والمناضل عزمي بشارة والمناضل سعيد نفاع ونخبة من الطليعيين العرب الدروز، الذين سبق أن تمرّدوا على الخدمة في جيش الاحتلال في السبعينيات وسجنوا إثر ذلك، (دفعهم) إلى التحايل الذهنيّ على هذا الواقع ومحاولة إحياء هذه الذاكرة العربية المشتركة عبر مدخل عروبة دروز لبنان ودروز فلسطين، فكانت مسيرة التواصل التي زادت الوعي القومي والوطني، وفاقمت أعداد رافضي الخدمة في جيش الاحتلال من منطلق قومي ووطني؛ وهي حركة بدأت قبل زمن بعيد، منذ أن رفض آلاف الدروز في بيان الخدمة العسكرية الإلزامية، ومنذ هبّ إمام بلدة الرامة المرحوم الشيخ فرهود فرهود، ومعه مئات الشبان الدروز، لرفض الخدمة العسكرية، حين كانت أحكام السجن، التي بلغت أحياناً عدّة أعوام، بانتظار الرافضين، إضافة إلى التضييق عليهم بمنعهم من الانتساب إلى أي سلك من أسلاك دولة الاحتلال.
سياق الظلم التاريخيّ لدروز فلسطين لا يحتمل الجدل، لكن لحظة الحقيقة قد حانت اليوم.
إسرائيل نفسها تعترف بمأزقها مع العرب الدروز نتيجة طبيعتها العنصرية، وليس أدلّ على ذلك من أن الاستطلاعات العلميّة الأخيرة الصادرة عن مؤتمر هرتسليا، الذي تعتدّ به، وتستند إليه المؤسسة الصهيونية للنظر في مستقبلها، تقول إن الشعور "الوطني" للدروز قد تدنّى في العقد الأخير إلى ١،٦ من أصل ٦.
إحصاء جامعة حيفا يقول إن ٦٣ في المئة من الدروز هم ضد الخدمة العسكرية. نفس الاستطلاع يقول إن ٦٤.٤ في المئة من دروز فلسطين يعتبرون العروبة مركّباً من مركّبات هويتهم. ٧٣ في المئة من الدروز يعتبرون وضعهم أسوأ من أوضاع باقي العرب. لأول مرّة تتجاوز نسبة الرفض الفعلي للخدمة الإجبارية أكثر من خمسين في المئة لدى الشبان الدروز.
دروز فلسطين يعلمون أن دولة إسرائيل ليست دولتهم، ومستقبلها ليس مستقبلهم، وهي تستعمل بعضهم وقوداً في إجرامها ومشاريعها.
الآن حانت لحظة الحقيقة، ولحظة الخيار الحاسم في رفض العرب الدروز الغوص في دم أبناء شعبهم الفلسطيني ورفض الانصياع لمواقف بعض الشخصيات الدينية والسياسية المرتبطة بسياسات المؤسسة الإسرائيلية، التي لا تزالت تروّج لحلف الدم الكاذب بين العرب الدروز وبين اليهود. وهل بقي مكان لحلفٍ كهذا مزعوم بعد قانون القومية الذي تبنته المؤسسة الصهيونية؟ والطليعيون الدروز من أبناء الداخل مدعوون ومطالبون بإعلاء موقفهم الوطني، الذي نعرفه وخبرناه، بالرغم من تهديد الاحتلال الإسرائيلي بإعمال قانون الطوارىء ضدهم. والشباب الدروز مطالبون برفض الخدمة في جيش الاحتلال، وبرفض المشاركة في الجرائم المرتكبة ضد أبناء شعبهم وجلدتهم؛ فكيف يرفض الحريديم الخدمة من منطلقات دينية في جيش الاحتلال ولا يرفضها بعض الشباب الدرزي؟ وما يجري اليوم من تشويه متعمّد عبر تضخيم دور المجنّدين الدروز قسراً في المعارك، وفي تعذيب المعتقلين الفلسطينيين، هي محاولة لدقّ آخر مسمار في نعش علاقة العرب الدروز مع باقي أبناء شعبهم الفلسطيني. وكلّ عارف يعلم أن المجنّدين الدروز قلّة، وهم لا يشكّلون عماد جيش الاحتلال، ويتم تضخيم حضورهم عن عمد. لكن هذا العدوان الأخير وفظائعه غير المسبوقة ستكتب تاريخاً من الصعب تجاوزه ومحوه، وسيلصق على جبيننا جميعاً إلى يوم القيامة، إذا لم يتم تداركه. وليس أبشع وأظلم وأكثر وطأة على العين والوجدان من رؤية المجرم بنيامين نتنياهو في ضيافة إحدى الشخصيات الدينية في عزّ جرائمه ضد الأبرياء والمدنيين وعموم أبناء فلسطين، من غزة إلى الضفة. فعمامة الموحّدين العرب الدروز هي عمامة صدق اللسان، وحفظ الإخوان، ورفض الظلم، ولا يحقّ لأحد أن يقحمها في هكذا صورة مهينة لعموم العرب الدروز على امتداد المعمورة، ولتاريخهم الناصع، من كمال جنبلاط إلى سلطان باشا الأطرش إلى وليد جنبلاط.
ينقل الكاتب الراحل قيس فرو عن تقرير سريّ للشاباك، صدر في ٣ تشرين من العام ١٩٥٣، أن المرحوم الشيخ أمين طريف قال حينها لمن راجعه بشأن التجنيد في جيش الاحتلال: "إن التجنيد في الجيش الإسرائيلي يجلب إلى شبابنا قيماً أخلاقية سيئة، ويلطّخ اسم الطائفة في البلاد العربية، ويضع الدروز في زمن حروب إسرائيل في خطوط النار".
أعاننا الله جميعاً على حفظ إرث السلف الصالح، وعلى حفظ هويتنا العربية والإسلامية، وعلى نصرة الشعب الفلسطيني في محنته.