كانت قمة دول حلف شمال الأطلسي التي استضافتها مدريد استثنائية قياساً بالظروف المحيطة وبحجم التطلعات. وسّع الناتو اهتماماته من أوروبا ليصل إلى أفريقيا وشرق آسيا. للمرة الأولى منذ تأسيسه، دعيت اليابان وكوريا الجنوبية وأوستراليا ونيوزيلندا لحضور إحدى قممه، في إشارة إلى اهتمام الناتو بمواجهة الصعود الصيني والتحدي "الأمني" الذي تفرضه. وأشاد قادة الدول الأربع بـ"المفهوم الاستراتيجي" (الأول منذ سنة 2010) الذي ذكر "التحديات" التي تطرحها الصين على "مصالح وأمن وقيم" دول التكتل. مع ذلك، صنّف الحلف روسيا على أنّها "التهديد الأكبر والمباشر" لأمن الحلفاء.
وافق الناتو على رفع "قوات الجهوزية العالية" على جناحه الشرقي لتصل إلى أكثر من 300 ألف جندي. وفي إطار مواجهة "التهديدات والتحديات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومنطقة الساحل" التي أعلن عنها الحلف في آخر جلسة له الخميس، نددت دول غربية عدة بالحضور المتزايد لمجموعة "فاغنر" في مالي وأفريقيا الوسطى. وأعلن الناتو نيته تقديم مساعدات إلى دول أفريقية لمكافحة الهجرة غير القانونية والإرهاب وربما لتخفيف التأثير الاقتصادي المتزايد للصين في تلك الدول. وتحدّث "المفهوم الاستراتيجي" الجديد للحلف عن "المصلحة الاستراتيجية" التي تمثّلها مناطق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ودول الساحل.
إعادة إحياء؟
يرى البعض أنّ الغزو الروسي لأوكرانيا أعاد إحياء الحلف مرة أخرى مع مسارعة دوله إلى دعم كييف عسكرياً وإلى زيادة إنفاقها الدفاعي. ومع الانضمام المتوقّع لكلّ من السويد وفنلندا إلى الناتو، يكتسب الأخير عمقاً عسكرياً في بحر البلطيق كما حدوداً إضافية مع روسيا. لكنّ أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جورج تاون تشارلز كوبشان يعتقد أنّ الناتو لم يشهد إعادة إحياء بالمعنى الضيّق للكلمة. لقد كان الناتو حلفاً قوياً طوال الوقت ومُظهراً قدرة ملحوظة على التكيف مع تغيّر الظروف، لكنّه بعد حرب أوكرانيا "أصبح أقوى".
مع ذلك، سيبدأ الحلف بمواجهة المرحلة الصعبة بعد نهاية القمة. كتب كوبشان في مجلة "فورين أفيرز" أنّ مسألة دعم كييف عسكرياً هي القضية السهلة. حان وقت إقران الدعم باستراتيجية ديبلوماسية هادفة إلى وقف لإطلاق النار ومفاوضات حول الأراضي. فكلما طالت الحرب انعكست تداعياتها أيضاً على وحدة الموقف الأميركي-الأوروبي، كما على وحدة الموقف داخل كل دولة غربية. فتصاعد التضخم وانتشار المشاكل الاقتصادية يزيد النزعات الانعزالية في الغرب، بدءاً بالولايات المتحدة وصولاً إلى أوروبا. يعتقد كوبشمان أنّ الوضع الاقتصادي حتى داخل ولاية كأوهايو قادر على التأثير سلباً على مجريات الأحداث في أوكرانيا.
ودعا الأستاذ الجامعي إلى معالجة وضع الدول الواقعة في "المنطقة الرمادية" الفاصلة بين أوروبا الأطلسية من جهة وروسيا من جهة أخرى، مثل مولدوفا وأوكرانيا وجورجيا. يميل كوبشمان إلى جعل هذه الدول تعتنق الحياد منعاً لإثارة مخاوف روسيا، مع إعطائها ضمانات عسكرية. كذلك، شدّد على ضرورة حثّ واشنطن أوروبا على مواصلة زيادة إنفاقها العسكري لأنّ أوروبا أقوى تعني نفوذاً أقوى لأميركا على الساحة الدولية.
تحديد الهدف
لم يكن كوبشمان المراقب الوحيد الذي يعلن تخوّفه من تأثير طول مدة الحرب في أوكرانيا على وحدة الغرب. أساساً، لم تكن هذه الوحدة صلبة في أيّ وقت من الأوقات باستثناء الأسابيع القليلة الأولى التي تلت انطلاق الغزو في 24 شباط. الدعم العسكري لدول أوروبا الغربية لأوكرانيا كان بطيئاً جداً، كما الدعوات إلى التفاوض حول تسوية والصادرة عن تلك الدول أقلقت الأوكرانيين كما الدول الأوروبية المحاذية لروسيا. حتى فرض العقوبات كان بطيئاً هو الآخر واستثنى قطاع الطاقة الروسي إلى حد بعيد. وعلى الصعيد الديبلوماسي يبدو الوضع أصعب.
تمتنع الولايات المتحدة عن فرض شكل محدّد من التسوية على أوكرانيا. وهذا ما قاله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتس ورئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي خلال زيارتهم أوكرانيا الشهر الماضي. لم يكن هذا موقفهم قبل تلك الزيارة. خطة التسوية التي اقترحتها إيطاليا في السابق وحديث ماكرون عن ضرورة "عدم إذلال" بوتين أوضحا أنّ الغرب ليس على الموجة الديبلوماسية نفسها.
وسبق لجدعون راخمان من صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية أن أشار إلى الاختلافات بين الغربيين في تحديد الأهداف. قال شولتس مثلاً إنّه يجب على روسيا ألا تفوز، لكنه لم يقل إنّه يجب على أوكرانيا الفوز. وأعلن ناطق باسم الإليزيه أنّ باريس تريد رؤية أوكرانيا منتصرة، لكنّ ماكرون نفسه لم يستخدم هذه الكلمات. وأوضح الكاتب أنّ هذا ليس خلافاً لغوياً بسيطاً لأنّ تباين الأهداف يعني عملياً خلافاً حول نوعية ووتيرة إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا.
الموقف الأميركي وتوسّع الناتو
يبدو إلى الآن أنّ الموقف الأميركي يحتل مرتبة وسطى بين الداعين إلى التشدّد الكامل مع روسيا وعدم توقيع أي اتفاقية سلام معها قبل الانسحاب من جميع الأراضي الأوكرانية (لندن وشرق أوروبا عموماً) وبين الداعين إلى تسريع التسوية (أوروبا الغربية). وكان الرئيس الأميركيّ قد أعلن سابقاً أنّه يريد وضع أوكرانيا في "أفضل موقف ممكن على طاولة التفاوض". وجدّد تأكيده خلال قمّة مدريد أنّ "الحرب لن تنتهي بهزيمة أوكرانيا".
تجنّب الحلف إظهار هدفه في أوكرانيا، لأنّه على الأرجح لا يجمع على هدف واحد. حتى بالنسبة إلى "التهديد" الصينيّ، فضّلت فرنسا حصر التركيز بروسيا وحربها على أوكرانيا. لكنّ توسيع اهتمامات الناتو إلى المناطق المجاورة له يعكس اهتماماً بمحاولة التوفيق بين المصالح المختلفة لأطرافه. فبالنسبة إلى غرب أوروبا وجنوبها، تبدو الهجرة عامل القلق الأبرز، وبسبب بعد المسافة عن روسيا، قد تحتلّ هذه القضيّة المرتبة الأولى على لائحة أولويّاتها. بالمقابل، يظهر أنّ الولايات المتحدة حصلت على دعم في قضيتها الأساسية شرقيّ آسيا. تؤكّد التطوّرات أنّ دور الناتو يتحوّل تدريجياً، ولو بشكل غير رسميّ، إلى دور دوليّ. لكن مع هذا التوسّع الذي ينمّ عن نجاح الحلف في جذب العديد من الدول إلى صفوفه أو إلى الشراكة معه، تتوسّع المسؤوليات ومها صعوبة التوصل إلى قرار موحّد في لحظات مصيريّة. وفي وقت تتصاعد فيه الموجات الشعبية الانعزالية بنسب متفاوتة، كما هي الحال في الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا إلى حدّ ما، سيبرز دوماً من يشكّك بجدوى تحمّل حكومته عبء سياسة أطلسيّة موسّعة. لكن لغاية اليوم، يبدو أنّ الناتو تجاوز جميع التحدّيات: ما عاد "ميتاً سريرياً" كما قال عنه ماكرون ولا "عفا عنه الزمن" كما وصفه ترامب منذ سنوات. تبقى العين حالياً على المستقبل القريب وكيفية مساهمته أو عدم مساهمته في إنهاء غزو أوكرانيا.