النهار

عن إرث غورباتشيف "المثير للجدل"
جورج عيسى
المصدر: "النهار"
هل كان رؤيويّاً؟ مسالماً؟ مدركاً لأهدافه؟
عن إرث غورباتشيف "المثير للجدل"
غورباتشيف - "أ ب"
A+   A-

"يحبّ الجميع الخاسر الهانئ". تلخّص هذه العبارة للباحث في "مركز ناشونال إنترست" سومنترا مايترا السبب العميق لشعبيّة الزعيم السوفياتي الراحل ميخائيل غورباتشيف بين الغربيّين عموماً. مع ذلك، لم يمثّل الأخير دوماً رجل سلام على الرغم من أنّه حاز على جائزة نوبل للسلام سنة 1990. يتّهمه كثر بأنّه حاول التستّر في البداية على كارثة تشرنوبيل النووية في أوكرانيا كما بقمع عدد من الاحتجاجات في الجمهوريّات السوفياتية السابقة مثل كازاخستان وجورجيا وليتوانيا وغيرها. بالفعل، غرّد وزير الخارجية الليتواني غبرياليوس لندسبرجيس كاتباً: "الليتوانيّون لن يمجّدوا غورباتشيف. لن ننسى أبداً الواقع البسيط أنّ جيشه قتل مدنيين لإطالة احتلال نظامه لدولتنا. أطلق جنوده النار على متظاهرينا العزّل وسحقوهم تحت دباباته. هكذا سنتذكّره".

 

أهدافه

تتذكّر أوروبا الغربية والولايات المتحدة غورباتشيف بطريقة مختلفة تماماً. هو الذي ساهم في تفكيك جدار برلين، أو على الأقلّ، لم يرسل جيشه لمنع الألمان من هدمه. واعتبر البعض غورباتشيف "أحد آباء الوحدة الألمانية" حيث لا يزال الألمان الشرقيون يحترمونه لأنّه جلب لهم الحرية. علاوة على ذلك، قبل غورباتشيف ببدء تفكيك الترسانتين النوويّتين الروسية والأميركية بالاتفاق مع الرئيس رونالد ريغان. ومع الإصلاحات التي أطلقها أواخر الثمانينات، أي الغلاسنوت (الانفتاح) والبيريسترويكا (إعادة الهيكلة)، يعتقد عدد من المراقبين الغربيين أنّ ذلك ساهم في تفكيك الاتحاد السوفياتي وبالتالي الانتهاء من كابوس الحرب الباردة. لكن يذكّر آخرون بأنّ غورباتشيف لم يكن يريد إنهاء الاتحاد السوفياتي بل تطويره. هذا التطوير هو أدّى في نهاية المطاف إلى تفكيك الاتّحاد أو تسريع ذلك بالحدّ الأدنى.

لفت مايترا النظر إلى تساؤلات الأوروبيين الشرقيين عمّا إذا كان غورباتشيف مثالياً أو ببساطة غير قادر على وقف مسار التاريخ. ويردّ الباحث على قول بايدن إنّ الزعيم السوفياتيّ السابق كان "رؤيويّاً" بالإشارة إلى أنّ الأخير لم يتمتّع بالرؤية أو البصيرة لفهم ما كانت ستؤدّي إليه البيريسترويكا. "بهذا المعنى، كان شيوعياً حتى النهاية، مثاليّته التروتسكيّة كانت في تناقض مع الانضباط الستالينيّ الضروريّ للحفاظ على حكم إمبرياليّ. القوميّون، خصوصاً في أوروبا الوسطى أرادوا الحرية؛ لم يستطع غورباتشيف وقف القوى التي أطلقها".

مع ذلك، كان بإمكان غورباتشيف أن يستخدم القوّة على نطاق أوسع لوقف انهيار الاتحاد السوفياتيّ عندما اكتشف أنّ إصلاحاته فشلت إلى حدّ تهديد وحدة السوفيات. لكنّه رفض ذلك أقلّه في المنطقة الحيويّة التي أمكنها الحفاظ على تماسك الاتّحاد: برلين. حتى في قضية التعتيم على كارثة تشرنوبيل، بدا غورباتشيف لاحقاً متقبّلاً للانتقادات التي طالت موسكو بفعل التقصير والتستّر على حدوثها. ويذكر البعض أنّه منذ انفجار تشرنوبيل، لم يعد المواطنون السوفيات يتسامحون مع أخطاء الكرملين كما أنّهم بدأوا يتلمّسون أنّ هذا النظام غير قابل للإصلاح. ربّما التقط غورباتشيف هذه المؤشّرات وأدرك أيضاً حجم استعصاء نظامه على التطوير. من المرجّح أنّ الزعيم السوفياتيّ الراحل لم يتوقّع إطلاق سياساته العدّ التنازليّ لنهاية الاتّحاد. لكنّه اقتنع بأنّه لا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، حتى بالوسائل القمعيّة.

 

ثغرات في تقييم الغرب

الأستاذ المشارك في قسم التاريخ في الجامعة الأميركية أنطون فدياشين كتب في "ناشونال إنترست" أيضاً كيف يفوت الغرب أنّ غورباتشيف كان يريد إنقاذ الاتحاد لا تدميره وأنّ الحرب الباردة انتهت قبل، لا بسبب انهيار الاتحاد سنة 1991، وأنّ الانتصار الغربيّ في تلك السنة يحجب واقع أنّ مصالح روسيا الجيوسياسية اختبرت تغييراً جغرافياً لا وجودياً. والأزمة الحالية في أوكرانيا هي دليل على ذلك. الأهمّ هو أنّ غورباتشيف التزم بالتعدّدية الداخلية، كما بالتعددية على صعيد النظام الدوليّ، وهذا يوضح بحسب فدياشين سبب انتقاده لممارسات الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين في الداخل لكنّه دعم استراتيجيته في السياسة الخارجية عموماً.

من المفارقات التي تركتها أفكار غورباتشيف أنّه دعم الإصلاحات العميقة في الاتحاد السوفياتي، ثمّ لاحقاً في روسيا، لكنّه أيّد أيضاً ضمّ بوتين للقرم سنة 2014. أمكن غورباتشيف أن يوفّق بين تعزيز الديموقراطية في روسيا وتأمين "مصالحها القومية" في الخارج. ربّما يجب ألّا يفاجئ هذا الوضع مراقبين كثراً. حتى المعارض الشرس لحكم بوتين ألكسي نافالني لم يعترض بوضوح على ضمّ القرم في ذلك الوقت. وسنة 2017، قال إنّه يجب إعادة إجراء استفتاء ثانٍ عادل لمعرفة رأي سكّان القرم قبل أن يقول في مقابلة لاحقة إنّ ضمّ شبه الجزيرة لم يكن شرعياً.

 

ماذا عن الحرب الحالية؟

بالنسبة إلى حرب أوكرانيا الحالية، يبدو أنّ غورباتشيف كان معارضاً لها. لكن ليس واضحاً ما إذا كانت هذه المعارضة مستندة إلى أهداف الحرب أم إلى طريقة خوضها. نقلت صحيفة "وول ستريت جورنال" عن الصحافيّ المقرّب من غورباتشيف أليكسي فينيديكتوف قوله إنّ الزعيم السوفياتي السابق كان معارضاً بشدّة لها حتى ولو لم يعلن ذلك على الملأ. في يونيو (حزيران) سأل غورباتشيف: "حياة أي فرد أصبحت أفضل بسبب هذا؟"

يعتقد قسم كبير من الروس أنّ حياتهم أيضاً لم تصبح أفضل بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. فقد ارتفعت نسب الجرائم والدعارة والسرقات والإدمان وانتشرت عمليات الاغتيال خلال التسعينات. هذه المفارقات الخارجية والداخلية تصنع من إرث غورباتشيف إرثاً "مثيراً للجدل". لكنّ ليون آرون من "معهد المشروع الأميركي" يرفض هذا التوصيف.

تطلق المجتمعات الغربية "غير الصبورة" هذا الـ"كليشيه" لانتقاد "أي سياسة لا تثمر نتائج إيجابية بشكل لا لبس فيه خلال الدقائق الخمس الأولى". بالنسبة إلى آرون، لم يكن غورباتشيف مدركاً تماماً لما يقوم به وحسب، بل لولا مجيئه إلى الحكم، لكان الاتحاد السوفياتي قد استمرّ لفترة أطول. هو يناقض نظريّة أنّ الاتحاد كان سينهار على أيّ حال بفعل ضعفه الاقتصاديّ عبر تعداد أمثلة عن أنظمة لا تزال صامدة بالرغم من أدائها الاقتصاديّ السلبيّ مثل كوبا وكوريا الشمالية وزمبابوي.

 

سمات لا جدل بشأنها؟

حتى لو صحّت فرضيّة آرون بشأن أنّ غورباتشيف "كان ثورة عظيمة فعلاً"، لا ينفي ذلك أنّ إرثه مثير للجدل. أوروبا الشرقية التي أصبحت اليوم جزءاً من الأحلاف الغربيّة لا تزال تنظر إلى غورباتشيف بريبة كبيرة بسبب قمعه لتحرّكاتهم نحو الاستقلال، كما أنّ الروس أنفسهم منقسمون بشأن سياساته أواخر الثمانينات والتي يرون فيها تمهيداً للمتاعب الاقتصادية التي واجههوها في التسعينات. ربّما لهذا السبب لم ينتخبوه رئيساً لهم سنة 1996. كلّ ما حصده حينذاك كان 0.5 في المئة من نسبة التصويت. لكن مجدّداً، ليس الأداء الانتخابيّ المعيار الوحيد للحكم على الأداء السياسيّ للشخصيّات التاريخيّة. وقد لا يكون المعيار الأهمّ حتى.

وسط صعوبة رسم تصوّر موحّد عن إرث غورباتشيف، وهو أمر ليس استثنائياً في عالم القيادات البارزة على أيّ حال، يبقى بعض النقاط المشتركة التي يمكن أن تجد إجماعاً أكبر بشأنها وفقاً لأستاذ التاريخ في جامعة أميركا الكاثوليكية مايكل كيمدج. "إنّ طيبة غورباتشيف، إذاً، لا تكمن في رفضه للعنف لكن في رفضه للعنف الجماعي والعنف العدميّ" يكتب كيمدج في "فورين أفيرز". كذلك، "استنتج غورباتشيف أنّه من الأفضل ألّا يموت وهو في المنصب. لقد كان من الأفضل لأصحاب السلطة ألّا يتمسّكوا بها مهما كلّف الثمن".

 

 

 

 

 

 

 

 

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium