طالب بعض المراقبين الولايات المتحدة بأن يكون لها هدف واضح في أوكرانيا. ما جاء في صحيفة "فايننشال تايمز" منذ أربعة أيام مثل بسيط على ذلك: "خلف الخطاب الواثق بنفسه، ثمة وضوح أقل بكثير عمّا تؤْمن واشنطن بأنه يمكن ويجب أن يحصل في أوكرانيا. ثمة تفصيل قليل عمّا ستبدو عليه هزيمة استراتيجية لروسيا أو ما هو نوع التسوية حول الأراضي الذي قد تنتهي الولايات المتحدة إلى تشجيع الأوكرانيين كي يقبلوا به".
ووفقاً لنقاط حوار داخلية صاغها مؤخراً مجلس الأمن القومي الأميركي قرأتها الصحيفة، "تسعى (واشنطن) إلى أوكرانيا ديموقراطية، سيّدة ومستقلة" وتهدف إلى التأكّد من أنّ جهود روسيا للسيطرة على أوكرانيا "تنتهي بفشل استراتيجي". ونقلت عن السفير الإيطالي السابق إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) ستيفانو ستيفانيني قوله: "يرغب الأوروبيون لو علموا ما هي خطة النهاية، لأنّ فكرة روسيا خاسرة – أو غير رابحة – لم يتم تحديدها".
الجواب أتى سريعاً؟
لم يتأخّر "الردّ" الأميركيّ. منذ يومين، كتب الرئيس جو بايدن مقال رأي في صحيفة "نيويورك تايمز" تحت عنوان "ما ستفعله وما لن تفعله أميركا في أوكرانيا". أعاد بايدن تأكيد أنّ بلاده تريد "رؤية أوكرانيا ديموقراطية، مستقلة، سيدة ومزدهرة مع الوسائل للدفاع عن نفسها وردع المزيد من الاعتداء". وكتب أيضاً أنّه سيلتزم شعار "لا شيء عن أوكرانيا بلا أوكرانيا" مضيفاً: "لن أضغط على الحكومة الأوكرانية – في السر أو العلن – لتقديم أي تنازلات إقليمية. سيكون فعل ذلك خاطئاً ومتعارضاً مع المبادئ الراسخة".
تجنّب بايدن في مقاله الإشارة إلى نيّة في إلحاق "هزيمة استراتيجية" بروسيا. بما يشبه عكس ذلك، أشار إلى "أنّنا لا نريد إطالة الحرب فقط من أجل إنزال الألم بروسيا". لكنّه في الوقت نفسه ذكر أنّه "إذا لم تدفع روسيا ثمناً باهظاً لأفعالها، فسيوجّه ذلك رسالة إلى معتدين محتملين آخرين بأنّهم قادرون هم أيضاً على الاستيلاء على الأراضي وإخضاع دول أخرى. سوف يعرّض بقاء ديموقراطيات مسالمة أخرى للخطر".
تعابير مبهمة
ربّما رأى بايدن أنّ استخدام عبارة "خسارة" أو "هزيمة استراتيجيّة" تصعيد مع روسيا لا يريده. بالمقابل، إنّ فرض "الثمن الباهظ" قد لا يعني بالضرورة إنزال هزيمة نكراء بروسيا بل حرب استنزاف لقواتها ومواردها العسكرية والمالية. مع ذلك، يجب الاعتراف بأنّ الخط الفاصل بين المفهومين غير واضح تماماً.
من جهة ثانية، قد لا يريح إعلان بايدن أنّه لن يضغط على كييف لتقديم تنازلات لصالح روسيا حلفاء واشنطن في أوروبا الغربية الخائفين من إطالة أمد الحرب، أكان لسبب إنسانيّ أو اقتصاديّ أو للسببين معاً. إذا كان الهدف الأساسيّ بالنسبة إلى هؤلاء تقصير مدّة الحرب فقد ينطوي ذلك بشكل غير مباشر على القبول بالتنازل عن الأراضي التي اجتاحتها روسيا لغاية اليوم أو عن قسم كبير منها. لن يقول الأوروبيون الغربيون هذا الكلام بشكل مباشر، لكنّهم يدركون أنّ الأوكرانيين لا يستطيعون فرض شروطهم من دون الدعم العسكريّ الغربيّ.
وعلى أيّ حال، إذا كانت "الهزيمة الاستراتيجية" لروسيا غير واضحة المعالم في واشنطن فإنّ "عدم إذلال" موسكو كما قال الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون هو تعبير مبهم أيضاً. قد يعني هذا التعبير أيّ مرادف بدءاً من عدم إرسال أسلحة فتّاكة إلى أوكرانيا وصولاً إلى إرضاء روسيا عبر إعطائها الأراضي التي استولت عليها.
أسلحة جديدة تقلب الطاولة؟
يوم الاثنين، أوضح بايدن أنّه لن يرسل أسلحة قادرة على استهداف الأراضي الروسية. تلقّى الرئيس الأميركي انتقادات من المتشدّدين الذين يريدون زيادة الكلفة على موسكو، ومن بينهم السيناتور الجمهوري ليندزي غراهام والسفير السابق إلى روسيا مايكل ماكفول. يبدو أنّ ذلك ساهم ولو جزئياً في تراجع بايدن عن قراره وفقاً لصحيفة "نيويورك بوست". ففي مقاله، وبالرغم من تشديده على أنّ واشنطن لا تريد الحرب مع روسيا ولا تريد تغيير حكمها، أعلن أنّه سيرسل "أسلحة أكثر تطوّراً" و"صواريخ دقيقة" إلى أوكرانيا.
لكن ليس مؤكّداً ما إذا كان بايدن قد تراجع عن قراره فعلاً. فالصواريخ التي ستُرسل هي من طراز "هيمارس"، ومن المرجّح أن ترسل واشنطن المقذوفات التي تتمتّع بمدى متوسّط يتراوح بين 70 و 80 كيلومتراً بحسب صحيفة "كييف بوست". وأشارت إلى أنّ أوكرانيا تحتاج بشكل يائس إلى مقذوفات "أتاكْم" (تُطلق أيضاً من هيمارس) ومقاتلات "أف-16". فالأولى قادرة على تسليم رؤوس تقليدية بزنة تفوق 200 كيلوغرام وتمكّن أوكرانيا من ضرب جميع القواعد الروسية الجوية داخل أوكرانيا كما أسطول البحر الأسود الذي ينفّذ الحظر على تصدير الحبوب بحسب الصحيفة.
على أيّ حال، هذه الصواريخ التي سترسلها واشنطن ستكون أقلّ بكثير من الأسلحة الطويلة المدى لكن أيضاً أعظم بكثير ممّا حصلت عليه حتى اليوم وفقاً لشبكة "سي أن أن". بالفعل، ذكرت صحيفة "الغارديان" أنّ صواريخ "هيمارس" أطول مدى من مدفعية "هافيتزر" بحوالي الضعفين، وهي تقع خارج نطاق مدفعية روسيا بينما بالمقابل هي تضع البطاريات الروسية في دائرة الخطر. وقال بعض المحللين إنّ هذه الصواريخ "مغيّرة في قواعد اللعبة" بينما يعتقد آخرون أنّها لن تقلب الطاولة فجأة، لكنّ مسؤولاً كبيراً في وزارة الدفاع قال إنّها ستجعل الميدان متوازناً بين الطرفين.
نقاط لم يذكرها
ما لم يأتِ على ذكره بايدن أيضاً هو خططه الأمنيّة لأوكرانيا المستقبلية مهما كانت خريطتها الجغرافيّة. ثمّة مشكلة أولى في الضمانة الأمنيّة التي ترتبط بأوكرانيا "السيّدة" التي تريدها الولايات المتحدة. هل يقبل بايدن بأن تكون أوكرانيا مجرّدة من حقّها "السياديّ" بالانضمام إلى الناتو؟ ماذا عن حقّها "السياديّ" بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؟ في الحالتين، يبدو أن لا جواب لدى الإدارة الأميركيّة، أو بالأحرى، لديها جواب لا يتوافق كثيراً مع تطلّعات أوكرانيا انطلاقاً من حقّها بالسيادة. الولايات المتحدة غير مستعجلة لضمّ أوكرانيا إلى الناتو، والاتحاد الأوروبي غير مستعجل هو الآخر لضمّها إلى صفوفه. و"عدم الاستعجال" هنا تعبير ملطّف عن الرغبة الحقيقيّة لصنّاع القرار في واشنطن وبروكسيل.
حتى تخلّي أوكرانيا عن الرغبة بالانضمام إلى الناتو جاء بفعل تلمّسها عدم وجود نيّة أميركيّة حقيقيّة لذلك بعد 14 عاماً على إطلاق الحلف الأطلسيّ تعهّده بأنّها ستنضمّ "في المستقبل" إلى صفوفه. بالمقابل، كانت فرنسا واضحة حين تحدّثت عن أنّ انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي قد يستغرق عقوداً. حتى مع افتراض أنّ أوكرانيا ستتخلّى أيضاً عن هذا الطموح، سيأتي يوم تطالب فيه أوكرانيا بضمانات أمنيّة حين تجلس إلى طاولة التفاوض. نوعيّة الضمانات التي تنوي واشنطن تقديمها لمنع غزو مستقبليّ لأراضيها تبقى هي الأخرى مثار تكهّن.
عن الأوراق غير المكشوفة
إذا كان من المفترض أن يوضح مقال بايدن استراتيجيّة الأميركيين في أوكرانيا فهو لم يفعل ذلك إلى حدّ بعيد. يمكن الدفاع عن الموقف الأميركيّ عبر الإشارة إلى أنّ الولايات المتحدة بالتأكيد لن تكشف جميع أوراقها أمام الروس، وهذا طبيعيّ. مع ذلك، ثمّة ملاحظة أخرى طرحها الأستاذ في جامعة "جونز هوبكينز" إليوت كوهين عن المقال: إنّ "إخبار الطرف الآخر ما لن نفعله" يرقى إلى "جنون استراتيجيّ".
ربّما كان كوهين مبالغاً في ردّ فعله. لا يمكن إسقاط احتمال أن يكون بايدن راغباً باحتواء مسبق لتداعيات إرسال أقوى أسلحة نُقلت إلى أوكرانيا حتى اليوم، فكتب في "نيويورك تايمز" أنّه لا يريد حرباً مع الروس، بالرغم ممّا سيسمعونه (أو يختبرونه) عن الأسلحة الجديدة.
هو التوازن الذي استنتج البعض أنّ بايدن يحاول اعتماده. تقول الخبيرة في العلاقات الأميركية والأوروبية مع روسيا أنجيلا ستَنت: "من ناحية، هذا أمر جديد، نرسل إليهم أنظمة الصواريخ هذه، مع أنّنا أوضحنا أنّنا لا نرسل إليهم صواريخ ستصل إلى عمق الأراضي الروسية. من ناحية أخرى، هو يوضح تماماً أنّ هنالك حدوداً لما ستقوم به الولايات المتحدة".
مع ذلك، قد لا ينتهي الجدل قريباً عن سبب رسم بايدن حدوداً لنفسه بشكل مجّانيّ في صراعه مع روسيا.