ما هي أكثر خمس دول في الاتّحاد الأوروبّيّ خيّبت ظنّكم خلال العامين الماضيين؟ طرح "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجيّة" هذا السؤال على خبراء سياسيّين وصنّاع قرار في جميع دول الاتّحاد الثماني والعشرين بين 2016 و 2018. كان الجواب خالياً "من أيّ لبس": المملكة المتحدة وهنغاريا وبولونيا. بالنسبة إلى الدولة الأولى، لا شكّ في أنّ "بريكست" كان العامل الأهمّ في تخييب أمل الأوروبيين. أمّا بالنسبة إلى الجوابين الثاني والثالث فمردّهما إلى التباين الواسع في تسلسل القيم بين غالبية الدول الأوروبية من جهة وبودابست وفرصوفيا من جهة ثانية. طوال سنوات، شكّلت بولونيا وهنغاريا تحالفاً ثنائيّاً بدا راسخاً إلى حدّ بعيد. كان هذا الرسوخ أحد أسباب الإحباط في بروكسيل. تبدّل كلّ ذلك سريعاً بعد غزو روسيا لأوكرانيا.
مرتكزات التحالف
ارتكز التحالف بين الدولتين إلى ريبة مشتركة من حكم بروكسيل والقيم التي تنادي بها. في بولونيا وهنغاريا، تحتلّ القيم المحافظة أولوية على القيم الليبيرالية التي يروّج لها الاتحاد الأوروبّيّ، كما ترفضان سيادة القانون الأوروبّيّ حين تتعارض مع القوانين المحلّيّة. وعزّز رفضهما للهجرة تعاونهما السياسيّ. ووصلت مشكلة بروكسيل مع فرصوفيا إلى مستويات أعمق في السنوات الماضية، مع بدء الحديث عن إمكانيّة انسحاب بولونيا من الاتّحاد الأوروبّيّ على الطريقة البريطانيّة تحت عنوان "بوليكست". وأقرّت فرصوفيا السنة الماضية غرفة جديدة في المحكمة العليا تفرض عقوبات على القضاة في حالات معيّنة، ممّا دفع المفوّضيّة الأوروبّيّة إلى انتقاد القرار معتبرة إياه بمثابة انتهاك لاستقلاليّة القضاء.
وفي نيسان الماضي، فعّل الاتّحاد الأوروبّيّ آلية سيادة القانون ضد الحكومة الهنغاريّة بعدما انتقدت رئيسة المفوضيّة الأوروبيّة أورسولا فون دير لاين "الفساد" في تلك الدولة. وحجبت أوروبا عدداً من برامج التمويل عن الدولتين بسبب هذه الخلافات وغيرها. دفع ذلك فرصوفيا وبودابست إلى تعزيز روابطهما الثنائية وقد خفّفت من عزلتهما القارّيّة.
نقاط الخلاف
ظلّت العلاقات ممتازة بين الطرفين حتى شنّت روسيا حربها على أوكرانيا. تختلف نظرتا الدولتين إلى الكرملين إلى حدّ بعيد. ترى فرصوفيا في موسكو "خطراً" على سيادتها بينما يتباهى رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان الخارج حديثاً من فوز انتخابي بارز بعلاقته مع روسيا. كانت هنغاريا من أبرز الدول التي هدّدت بفرض الفيتو على أيّ قرار أوروبّيّ يقطع واردات الطاقة الروسية كإجراء عقابيّ ضد موسكو. اضطرّت أوروبا للنزول عند رغبة هنغاريا مرّات عدة حتى قبلت الأخيرة بتمرير الحزمة الأوروبية السادسة من العقوبات والتي تضمّنت فرض حظر على واردات النفط الروسية الآتية عبر السفن. حصلت بودابست بالمقابل على إعفاء من النفط الذي تستودره عبر خط أنابيب دروجبا.
وتضمّنت الحزمة تعهّداً من بولونيا وألمانيا بوقف الصادرات النفطية من روسيا بحلول نهاية السنة الحالية ممّا يوسّع الحظر ليشمل 90% من النفط الروسي. ومن غير المتوقّع أن تقبل هنغاريا بمناقشة فرض حظر على وادرات الغاز الروسيّ في المستقبل القريب. حتى ألمانيا قد لا تكون متحمسة كثيراً تجاه هذه الفكرة. لكنّ بولونيا أوقفت شراء الغاز الروسي إلى جانب كل من فنلندا وبلغاريا وهولندا بعدما رفضت دفع ثمنه بالروبل. واضح حجم التباين بين تصوّر كلّ من فرصوفيا وبودابست تجاه "التهديد" الذي تفرضه موسكو. وهذا يدقّ إسفيناً في العلاقة بين الحليفين. ليس في هذا التطوّر ما يثير الدهشة. التهديد الوجوديّ للأمن القوميّ البولونيّ أهمّ من تقاطع الرؤى تجاه حكم القانون أو بعض القيم الأخرى.
بحاجة إلى "طبيب عيون"
كانت بولونيا من أشدّ الداعمين لأوكرانيا. إذا ما قيس حجم المساعدات بالناتج المحلي الإجمالي، فإنّ المساعدات العسكرية البولونية لكييف تتخطى تلك التي قدّمتها الولايات المتحدة بحوالي الضعفين. وأصبحت بولونيا مركز توزيع الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا. بالمقارنة، ترفض هنغاريا حتى استخدام أراضيها كدولة ثالثة لنقل السلاح إلى كييف. وصل الخلاف بين الدولتين إلى حدّ توجيه رئيس الحكومة البولونية ياروسلاف كاتشينسكي انتقاداً علنيّاً لنظيره الهنغاري: "لا نستطيع مواصلة التعاون كما فعلنا لغاية اليوم إذا استمرّ على هذه الحال. إنّ (تغييراً) إيجابياً (في العلاقات) سيكون أمراً جيداً جداً، لكن فقط إذا تغيّر أوربان". حتى أنّه نصحه بالتوجّه إلى "طبيب عيون" إذا لم يرَ المجزرة في بوتشا.
بسبب الحرب، أجّلت فرصوفيا الاحتفال بيوم الصداقة بين الدولتين. ما وصفه أوربان يوماً بأنّه "تحالف تاريخيّ" والبولونيون بأنّه "علاقة أخويّة" تبدّد سريعاً مع بدء الغزو الروسيّ. حين كان كاتشينسكي في المعارضة سنة 2011، قال إنّه يريد أن يؤسّس "بودابست في فرصوفيا".
انهيار مؤجّل؟
في 2 نيسان الماضي، كتب فويتشخ برزيبلسكي من معهد العلوم الاجتماعية في فيينا عن "نهاية محور بودابست-فرصوفيا" بفعل تقرّب أوربان من روسيا. لقد قدّم بوتين لأوربان غازاً بأقلّ ثمن في أوروبا وقروضاً خاصة لتمويل توسيع منشأة "باكس 2" النووية وأسّس "بنك الاستثمار الدولي" في العاصمة الهنغارية. أملى كلّ ذلك على أوربان سياسته الروسية. من جهته، توقّع معهد "ستراتفور" صعوبة في حفاظ بودابست على هذه السياسة لأنّها ستزيد عزلتها داخل أوروبا بالتزامن مع تخفيف فرصوفيا توتّراتها مع بروكسيل خصوصاً بشأن الغرفة القضائية المثيرة للجدل. بالفعل، طرأ بعض التحسّن على العلاقات بين الطرفين خلال أزمة الهجرة على الحدود البيلاروسية السنة الماضية.
على الرغم من كلّ التوترات الأخيرة، يصعب أن يشهد العالم قطيعة تامة للعلاقات بين الدولتين بسبب التقارب الفكريّ بين حزبي "فيديس" الهنغاري و"القانون والعدالة" البولوني. في تحليل حديث لـ"المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية"، أشار آدم بالْسر وسوزانا فيغ إلى أنّ بولونيا وهنغاريا لا تزالان بحاجة إلى بعضهما البعض في مواجهة انتقادات بروكسيل. مع ذلك، إذا لم تتخذ هنغاريا موقفاً أقسى حيال روسيا، "فلن تتصالح فرصوفيا مع بودابست والتعاون سيبقى محدوداً عند هذا القاسم المشترك الأساسي".
يبدو أنّ هذا القاسم المشترك سيحافظ على ما تبقى من روابط بين الدولتين في المدى المنظور. لكنّه قد لا يكون كافياً لاستدامة الحدّ الأدنى من العلاقة لو تمكّنت روسيا من تحقيق انتصار في أوكرانيا يمكّنها من التحرّك في أماكن أخرى ومنها ممرّ سوالكي البولونيّ المؤدّي إلى كالينيغراد.