"أخيراً، كل ما لزم الأمر كلمة واحدة هادئة من غورباتشوف لإعلان تفكك الحزب الشيوعي السوفياتي، فرحل حزب عظيم. في النهاية لم يكن أحد رجلاً حقيقياً. لا أحد أتى ليقاوم". تظهر هذه الكلمات للرئيس الصيني شي جينبينغ سنة 2013 حجم الاستياء من طريقة إدارة آخر زعيم سوفياتي للإصلاحات التي أدّت بطريقة غير مباشرة إلى انهيار الاتحاد أواخر سنة 1991.
ساحة تيانامن والساحة الحمراء
إذا كانت نظرة شي إلى غورباتشوف الذي رحل منذ أيام عن عمر 91 عاماً نظرة قاسية، فتوصيف الزعيم الصيني الأسبق دنغ شياو بينغ له أقسى بكثير. بينغ الذي يعرف بكونه أبا الإصلاحات في الصين والذي استقبل غورباتشوف كأول زعيم سوفياتي يزور بلاده منذ 30 عاماً، اعتبر ضيفه "غبياً". هذا على الأقل ما نقله محلل الشؤون الدولية والصينية في شبكة "أي بي سي" الأوسترالية ستان غرانت عن نجل الرئيس الأسبق دنغ جيفانغ.
من جهة، أعاد غورباتشوف الدفء إلى العلاقات السوفياتية-الصينية بعد قطيعة طويلة. من جهة أخرى، ساهم في نشر مطالبات بالديموقراطية داخل الصين نفسها. لم ينسَ الرؤساء الصينيون بالتأكيد كيف تزامنت زيارة غورباتشوف، في أيار 1989، مع تظاهرات عشرات الآلاف من الصينيين المطالبين بالحريات. لكن في الشهر التالي، شنّت السلطات الصينية حملة قمع واسعة في ما عرف لاحقاً بأحداث تيانانمن ذهب ضحيّتها المئات إن لم يكن الآلاف من الصينيين وخصوصاً الطلّاب، وفقاً لتقديرات غربية. بحسب غرانت، قال غورباتشوف لمقرّبين منه: "لا أريد للساحة الحمراء أن تشبه ساحة تيانانمن".
بالنسبة إلى الصينيين، كانت ساحة تيانانمن "ضرورية" لمنع تفكّك الحزب الشيوعيّ الصينيّ. وثمّة خوف في بكين من تفكّك الأراضي الصينيّة بفعل تطلّعات "انفصاليّة" في بعض المناطق، كما هي الحال في التيبت وشينجيانغ وتايوان. في العاصمة الصينية، الأولوية هي لوحدة الصين واستمرارية الحزب. بطبيعة الحال، تهتمّ بكين برفاهية شعبها، وقد استطاعت انتشال نحو 700 مليون صينيّ من الفقر خلال العقود القليلة الماضية بفعل الإصلاحات الاقتصادية التي أطلقها دنغ تحديداً. لكنّ الأخير وقف ضدّ لَبْرَلة الحياة السياسية. بالنسبة إليه، قلبَ غورباتشوف الإصلاحات رأساً على عقب.
"فهم خاطئ"
في حديث إلى إذاعة "صوت أميركا" يقول المترجم الأسبق لدنغ والأستاذ الحالي في جامعة سوشو الصينية فيكتور غاو: "بالعودة إلى الثمانينات، اعتقدَ دنغ شياو بينغ أنّ السيد غورباتشوف فهم البيريسترويكا (إعادة الهيكلة) بشكل خاطئ. كان غورباتشوف يدفع باتجاه الإصلاح السياسي قبل الإصلاح الاقتصادي؛ الصين في ظل دنغ كانت تروّج للإصلاح الاقتصاديّ قبل الإصلاح السياسيّ".
ورأى غاو أنّ الأكثر أهمية بالنسبة إلى الناس هو ما إذا كان بإمكان الدولة أن تؤمّن لهم الطعام في نهاية المطاف. لكنّ تظاهرات تيانانمن كانت تطالب بالديموقراطية. حتى أنّ المحتجّين وصفوا غورباتشيف بـ"سفير الديموقراطية".
علاوة على ذلك ليس مؤكّداً وجود رغبة صينية بإصلاحات سياسيّة-ليبيراليّة بعد الإصلاحات الاقتصادية. لم تدخل تلك التعديلات على نظامها السياسيّ في العقود الماضية، ومن المستبعد أن تفعل ذلك في المستقبل القريب بسبب الخوف الملازم من الاضطرابات. في هذا السياق، شكّك الأستاذ المشارك للعلاقات الدولية في الجامعة المسيحية الدولية في اليابان ستيفن ناغي خلال حديث للشبكة نفسها بقدرة نظام ديموقراطي على التعامل مع جميع التحديات التي تواجهها الصين من دون الحكم الحالي للدولة.
"فوبيا"
يجمع مراقبو الشأن الصينيّ على أنّ بكين درست كثيراً أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي. ويحمّل الجزء الأكبر من الصينيين غورباتشوف المسؤوليّة. أستاذ الشؤون الحكومية في كلية كليرمونت ماكينا مينشين پَي الذي يصف الصين بأنّها تعاني من "فوبيا" غورباتشوف يقول إنّ هنالك فارقاً في مقاربة تجربة الأخير بين المتشدّدين في الحزب الشيوعي والأكاديميين الصينيين. وكتب في "بروجكت سينديكيت" أنّه إذا كان الطرف الأوّل يصرّ على اتّهام إصلاحات غورباتشوف بتفكيك الاتحاد فإنّ الأكاديميين الصينيين يرون أنّ أسلافه في الحكم، خصوصاً بريجنيف الذي حكم الاتحاد بين 1964 و 1982، مسؤولون عن تكلّس النظام بحيث أصبح عصيّاً على الإصلاح.
لكنّ الصين قدّمت نموذجاً ناجحاً عن إصلاح اقتصاديّ على الرغم من أنّ أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية في الستينات والسبعينات كانت أسوأ من الأوضاع السوفياتية في الثمانينات. قبل مجيء دنغ إلى الحكم، لم تكن الصين قد تحوّلت بعد إلى قوة صناعيّة بالمستوى الذي وصل إليه الاتحاد السوفياتيّ. ربّما كان تدرّج دنغ في تطبيق الإصلاحات قد ساعد بلاده على المضيّ قدماً. رأى دنغ أنّ غورباتشوف "وضع الحصان قبل العربة"، أو ربّما بجانبها. بالفعل، يمكن التساؤل عمّا إذا كان تطبيق "الغلاسنوت" (الشفافية) بالتوازي مع "البيريسترويكا" (إعادة الهيكلة) قد حتّم على الاتحاد التفكّك. فالشفافية كشفت أمام المواطنين السوفيات الفارق الكبير بين مستويي معيشتهم ومعيشة الغربيين. بالتالي، كان الأوان قد فات بعد ذلك لإجراء أيّ إصلاحات هيكليّة في الدولة لأن الرأي العام أصبح يريد أكثر مما بإمكان الاقتصاد المخطط أن يقدّمه وفقاً للبعض.
تشابه... بل ربّما تطابق
ثمّة تشابه في الموقفين الرسميّين لروسيا والصين من غورباتشوف. هنالك إشادة سريعة ببعض محطّاته كمحاولة الإصلاح بحسب بوتين، وتطبيع العلاقات بين موسكو وبكين بحسب الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية. لكنّ المعلّقين السياسيّين المقرّبين من الحكم كانوا أكثر انتقاداً لأدائه. إعلاميّون روس وصفوا غورباتشوف بـ"الساذج"، وإعلاميّون صينيّون كتبوا أنّه نال ثناء الغرب "من خلال التضحية بمصالح وطنه" كما فعل هيوشي جين في صحيفة "غلوبال تايمس". وفي تقرير آخر للصحيفة نفسها، قال خبير صينيّ من بكين إنّه يمكن إرجاع حرب أوكرانيا إلى إبرامه تسويات غير مبدئية مع الغرب في إعادة توحيد ألمانيا.
بحسب ما قاله المؤرخ السياسي في كلية الملك بلندن كيري براون لصحيفة "نيويورك تايمس"، سينظر القادة الصينيون "إلى كل ما فعله آخر زعيم للحزب الشيوعي من الاتحاد السوفياتي كدليل إلى كيفية عدم التصرّف".
يمكن قول الأمر نفسه عن القادة الروس.