هي معركة دامت فترة أطول من معركة ستالينغراد. بعد سبعة أشهر وأكثر من المحاولات المتكرّرة للسيطرة عليها، تقترب القوّات الروسيّة من تطويق باخموت واقتحامها. يوم الجمعة، دعا رئيس منظمة "فاغنر" يفغيني بريغوجين السلطات الأوكرانيّة إلى الانسحاب من المدينة تجنّباً لسقوط المزيد من الضحايا. لا يبدو أنّ كييف في وارد الإعلان عن هذا القرار، أقلّه حتى كتابة هذه السطور. لكن ثمّة خطوات ميدانيّة تلمّح إلى اقتراب أوكرانيا من الانسحاب كما هي الحال مع تفجير بعض الجسور.
في نهاية المطاف، من المرجّح سقوط باخموت. من هنا السؤال الأساسيّ عن سبب إصرار أوكرانيا على التمسّك بالمدينة حتى هذا الوقت المتأخّر بالرغم من أنّها غير استراتيجيّة. فهل من خطة ضمنيّة لدى كييف وراء البقاء في المدينة حتى اللحظات الأخيرة التي تسبق تطويقها؟ أم هو مجرّد رفض مكلف للاعتراف بالواقع؟
من المؤكّد أنّ باخموت لا تملك خصائص المدينة الاستراتيجيّة بالنسبة إلى الحرب: فهي ليست مدينة مرتفعة تؤمّن تغطية ناريّة واسعة للمناطق المحيطة بها، ولا تحتضن مصانع حربيّة كما أنّها ليست بحدّ ذاتها تقاطعاً بارزاً للمواصلات أو خطّ إمداد أساسيّاً في دونيتسك. ربّما على المدى البعيد الذي يلي نهاية الحرب، قد تكون باخموت مصدراً لثروات طبيعيّة. لكن بالنسبة إلى الحرب الدائرة حاليّاً، لا تمثّل المدينة أيّ ميزة حاسمة لأيّ من الجيشين، باستثناء أنّها كانت مدينة محصّنة. بالتالي، ثمّة وجهٌ آخر للسؤال: لماذا تهتمّ روسيا في الأساس بتلك المدينة من الناحية العسكريّة؟
احتمالات
تمثّل باخموت مكسباً للروس على طريق السيطرة على كامل دونيتسك. باخموت طريق إلى هدفين أهمّ في الإقليم: سلوفيانسك وكراماتورسك. وربّما بدأ الأمر مع رغبة "فاغنر" بإثبات فاعليّتها الميدانيّة مقابل تعثّر الجيش الروسيّ، قبل أن يصبح احتلال المدينة عبئاً على الطرفين معاً.
أحياناً، تكتسب المدن شهرتها في الحرب فقط لأنّها محصّنة عسكريّاً. يمدّ هذا الواقع الجيوش المهاجمة باندفاع إضافيّ لاقتحامها. يتحوّل الأمر إلى معركة رمزيّة. والرموز أساس الدعاية السياسيّة. من جهة، قد يصاب الأوكرانيّون بالإحباط بسبب خسارتهم المدينة. من جهة أخرى، ستستفيد روسيا إعلاميّاً من هذه النتيجة مع تصوير أنّ الحرب تصبّ في مصلحتها وهو جهد دعائيّ قد يساهم في دفع الغرب إلى إعادة دراسة خياراته الداعمة لأوكرانيا. لكنّه مع ذلك تصويرٌ لا يدعمه الواقع. ما يدعمه فقط هو رمزيّة المدينة التي اكتسبتها بعد المعركة لا قبلها. وهذا ما تقوله الأرقام عن جانب مهمّ من المسار العام للحرب مع احتساب سقوط باخموت:
في شهر كانون الثاني، سيطرت روسيا على مساحة تقرب من 600 كيلومتر مربّع، وفي شباط، على نحو 85 كيلومتراً مربّعاً. تبلغ مساحة باخموت ما يقرب من 42 كيلومتراً مربّعاً. في تشرين الأوّل، استرجعت أوكرانيا نحو 2400 كيلومتر مربّع في مقاطعة خيرسون وحدها. أمّا في خاركيف فنحو 12 ألفاً. مهما كان حجم المبالغات الأوكرانيّة لجهة المساحة الإجماليّة من الأراضي التي استرجعتها، يظلّ ما حقّقه ويحقّقه الروس على الأرض ضئيلاً جداً بالمقارنة.
عودة إلى باخموت
ليس مستبعداً أن تكون أوكرانيا في طور استغلال "رمزيّة" باخموت بالنسبة إلى الروس من أجل استنزافهم. وإن كان على المراقب استعارة توصيف مجلّة "إيكونوميست" البريطانيّة، فستكون أوكرانيا مستغلّة لـ"طلسميّة" المدينة بالنسبة إلى القوّات الروسيّة و"فاغنر" معاً. يجد هذا التوصيف جذره، مجدّداً، في انعدام الأهمّيّة الميدانيّة لباخموت مقابل الكلفة الباهظة التي تتكبّدها روسيا من أجل السيطرة عليها. لكنّ المجلّة تذكّر بمعركة مماثلة جرت السنة الماضية.
ظلّ الروس مركّزين طوال أسابيع، إن لم يكن أشهراً، على مدينة سيفيرودونيتسك في لوغانسك. مثل باخموت، لم تملك المدينة أيّ أهمّيّة من الناحية العسكريّة. لقد كانت مجرّد مركز سكّانيّ كبير والعاصمة الإداريّة للجزء غير المحتلّ من المقاطعة. تمكّن الروس من السيطرة عليها في حزيران بعد معارك دامت أربعة أشهر. فرض ذلك كلفة كبيرة على خطوط الدفاع الروسيّة؛ استغلّت أوكرانيا نقطة الضعف هذه فشنّت هجومها المضاد والناجح بعد نحو شهرين في خاركيف. ضعف روسيا في تلك المنطقة سبق أن أشار إليه "معهد دراسة الحرب" حتى قبل سقوط سيفيرودونيتسك، مستنداً إلى الخسائر الكبيرة في صفوف القوّات الروسيّة.
مع ذلك ثمّة سؤال محيّر
ما الذي يؤكّد لأوكرانيا أنّها تستنزف الجيش الروسيّ بوتيرة أعلى من استنزافه لقوّاتها؟ عادة ما يكون المدافع في موقع أفضل من المهاجم. نظريّاً، تبدو أوكرانيا متفوّقة. لكنّ ضبابيّة الحرب لا تركن إلى ما هو نظريّ وحسب. سبق أن أعلنت وزارة الدفاع البريطانيّة أنّه في بعض الأحيان، فقدت روسيا نحو ألفي رجل مقابل كلّ 100 متر سيطرت عليها بالقرب من باخموت. لكن يبدو أنّ هناك معلومات أحدث حصلت عليها أوكرانيا مؤخّراً. وتقول هذه المعلومات إنّ كييف في موقع أفضل بكثير من موقع موسكو على مستوى القوّة البشريّة. أعلن أمين مجلس الدفاع والأمن القوميّ الأوكرانيّ أوليكسي دانيلوف الخميس أنّ نسبة الخسائر الأوكرانيّة إلى الخسائر الروسيّة هي واحدة على سبع خسائر روسيّة.
إن صحّ هذا الرقم، بل حتى ولو صحّ نصفه، فسيكون بالإمكان حينها فهم سبب إصرار أوكرانيا على التمسّك إلى هذا الحدّ بالمدينة: استنزاف الجيش الروسيّ إلى حدّ الإنهاك. بطبيعة الحال، لا ترقى هذه الفرضيّة إلى درجة اليقين. قد يكذّبها الميدان أو يصادق عليها. لكنّ الأدلّة الحاليّة على تماسكها ليست بقليلة. تكرار روسيا أخطاءها في فوليدار لا يجعل تكرارها لسيناريو سيفيرودونيتسك، إنّما هذه المرّة في باخموت، مفاجئاً.
فرحٌ ممزوج بالقلق
حتى القادة العسكريّون الروس يعربون عن خشيتهم ممّا ينتظرهم بعد باخموت. كتب قائد لواء "فوستوك" والمسؤول السابق في جمهوريّة دونيتسك الانفصاليّة ألكسندر خوداكوفسكي على تلغرام أنّه قلق من "وضع يتمّ تأسيسه حيث أنّنا، مشتّتي الانتباه في باخموت وفوليدار، قد نواجه هجوماً آخر، إن لم نصدّه، فسيحجب باخموت قاضياً على فرحة انتصار محلّيّ صعب ومكلف مع مرارة هزيمة محتملة غير محلّيّة."
فهل تندم روسيا على إسقاط باخموت؟ الربيع المقبل قد يزهر الجواب.