بينما شهد الملايين احتفالات اليوبيل البلاتينيّ تعبيراً عن امتنانهم للملكة إليزابيث الثانية وسنواتها السبعين على العرش البريطانيّ، كانت الاحتفالات على مدى أربعة أيّام بالنسبة للنظام الملكيّ نفسه تدور حول التطلّع إلى المستقبل.
وخلال عروض في لندن وحفل أمام قصر بكنغهام وقداس عيد الشكر، كان الكثيرون في بريطانيا يثنون على استمرار الملكة (96 عاماً) في الخدمة، وصارت أطول الملوك تربّعاً على العرش منذ ألف سنة.
لكنّ غيابها عن كثير من فعاليّات الاحتفال باليوبيل البلاتينيّ بسبب مشكلات صحيّة كان يعني أن يركّز الاحتفال على من يرث العرش من بعدها، وهما ابنها الأمير تشارلز ونجله وليام.
قال كاتب السيرة الملكية روبرت لاسي، وهو أيضاً المستشار التاريخيّ للمسلسل التليفزيوني الشهير "ذا كراون" ("التاج"/ The Crown) على منصة "نتفليكس"، إنّ الملكة تمهّد الطريق لما سيأتي بعدها.
وأضاف لوكالة "رويترز" أنّ "لليوبيل أهمّيّة من جهتَين... نعم، لقد جرى الاحتفاء بالملكة وما سيكون يوماً ما من الماضي، ولكنّه وفّر أيضاً منصّة للصيغة والنمط الجديدَين للمستقبل".
غابت الملكة عن معظم أحداث اليوبيل الكبرى بسبب ما يسمّيه القصر "مشكلات في الحركة"، اضطرّتها لعدم الظهور علناً في الآونة الأخيرة، ممّا سلّط الضوء على تقدّمها في العمر.
وفي غيابها، ظهر في المقدّمة ابنها ووريث العرش الأمير تشارلز (73 عاماً) وابنه وليام، التالي في ترتيب العرش.
في ختام بارز للاحتفالات اليوم، ظهرت الملكة في شرفة قصر بكنغهام بجوار الأمراء الثلاثة بحسب ترتب ولاية العرش، الأمير تشارلز والأمير وليام وابنه الأكبر الأمير جورج.
في السياق، قالت الصحافية تينا براون، المراقبة منذ فترة طويلة للعائلة المالكة البريطانيّة، إنّ الملكة إليزابيث كانت تركّز على الخلافة.
وفي حديث لتلفزيون "هيئة الإذاعة البريطانية" (بي بي سي)، قالت إنّ "اهتمامها (الملكة) الوحيد الآن هو أنّ الأمور يجب أن تكون في وضع جيّد لتشارلز، مع القيام بكلّ شيء ممكن لتيسير فترة تولّيه العرش".
وقالت براون ولاسي إنّ هذا هو السبب في أنّ الملكة استغلّت ذكرى مرور 70 عاماً على تولّيها العرش في شباط لتُعلن أنّها تريد أن تصبح كاميلا زوجة تشارلز الثانية هي الملكة عند تولي تشارلز العرش، ممّا أزال أيّ جدل مستقبليّ حول دورها.
تقلّب الحظوظ
خلال فترة حكم إليزابيث الطويلة، تقلّبت حظوظ النظام الملكيّ في كثير من الأحيان، وكانت في أدنى مستوياتها في أعقاب وفاة الأميرة ديانا زوجة تشارلز الأولى الآسرة عام 1997، ثمّ صعدت إلى الذرى عندما أقيم حفل زفاف الحفيد وليام وزوجته كيت، وبعدها عند الاحتفال بأعياد ميلاد أبنائهما.
وكانت السنوات الثلاث الماضية صعبة بشكل خاص على المؤسسة الملكيّة.
أولاً، أُجبر الابن الثاني للملكة الأمير آندرو على التخلّي عن واجباته العامّة بسبب صداقته مع رجل الأعمال الأميركيّ الراحل جيفري إبستين، وقام فيما بعد بتسوية دعوى قضائيّة مع امرأة اتّهمته بالاعتداء عليها جنسياً عندما كانت في السابعة عشرة من عمرها.
ونفى الأمير آندرو هذا الادّعاء، ولم يتمّ اتّهامه بارتكاب مخالفات جنائيّة، لكن كان لهذه القضيّة تأثير بالغ الضرر على سمعته.
في هذه الأثناء، انتقل شقيق وليام الأصغر هاري وزوجته الأميركية ميغان ماركل إلى لوس انجليس، حيث قاما بهجمات لاذعة على قصر بكنغهام، أبرزها اتّهام بالعنصرية خلال مقابلة مع مقدّمة البرامج أوبرا وينفري.
يومها، قال وليام: "لسنا عائلة عنصريّة". وبينما لطّخ كلا الحدثَين سمعة "المؤسّسة"، كما تطلق العائلة المالكة البريطانية على نفسها، تشير استطلاعات الرأي في بريطانيا إلى أنّ الضرر الدائم قد لحق بشكل أساسيّ بآندرو وهاري نفسَيهما.
سُحُب قاتمة
قال لاسي إنّ اليوبيل ذكّر الكثيرين بالإيجابيات التي جلبها النظام الملكيّ. وأضاف أنّ "تشارلز وكاميلا مرتبطان بذلك على نحو لم تكن لتتصوّر أنّه ممكن قبل بضع سنوات".
لكن، ومع الاحتفالات جميعها التي جرت هذا الأسبوع والخطط الخاصة بالمستقبل، لا تزال بعض السُّحُب القاتِمة تُخيّم في الأفق.
وتُظهر استطلاعات الرأي أنّ الملكة تتمتّع بشعبيّة ضخمة، وأنّ البريطانيّين الأكبر سنّاً يؤيّدون النظام الملكيّ؛ لكنّ الاستطلاعات تُشير أيضاً إلى أنّ الشباب أكثر لامبالاة، وأنّ الشعبية قد تراجعت خلال العقد الماضي.
وبرغم بقاء هاري وميغان بعيداً من الأضواء خلال احتفالات اليوبيل، إلّا أن الأمير يكتب مذكّرات من المقرّر صدورها في وقت لاحق من هذا العام والتي قد تحتوي على المزيد من التفاصيل الصارخة.
وفي تشرين الثاني الماضي، أزاحت بربادوس الملكة إليزابيث من منصب رئيس الدولة، في حين هناك شعور متزايد بأنّ المشاعر الجمهوريّة سوف تتنامى في 14 دولة أخرى تتولّى فيها الملكة المنصب ذاته.
وعيّن حزب العمل الجديد المنتمي إلى يسار الوسط في أوستراليا، والذي صوّت في عام 1999 ضدّ التخلّي عن الملكيّة، أوّل "مساعد وزير للجمهورية" في البلاد.
في الإطار، قالت باتريشيا بوروز (80 عاماً) التي سافرت من أوكلاند لحضور احتفالات اليوبيل: "لا أعرف إن كانت الأمور ستكون على حالها عندما لا تكون (الملكة) هنا بعد الآن... هذا ما نشعر به (في نيوزيلندا)".
إلّا أنّ بعض من شاركوا في الاحتفالات يشعرون بأنّ النظام الملكيّ سيظلّ جزءاً لا يتجزّأ من بريطانيا، حتى مع اقتراب دور الملكة من نهايته.
من جهته، قال إيان هيغينز (62 عاماً)، وهو ممرّض في مركز طبّي للصحة العقليّة، إنّه "من السهل أن تنتقد الأمر وتقول إنّه لا يناسب هذه الأوقات (...) لكنّني أعتقد أنّ وجود شيء يجمع الناس معاً، ليس سياسيّاً، بل يوحّد الناس، أمر مهمّ جدّاً لهذا البلد، كما يحبّه بقيّة العالم".
وفيما يتعلّق بما إذا كان سيحدث تدفّق مماثل للمشاركين في الاحتفالات عندما يصبح تشارلز ملكاً، كانت المشاعر متباينة.
فقد قالت أماندا ماكنزي (51 عاماً) التي تعمل مدرّسة يوغا في لندن: "علينا أن ننتظر ونرى... علينا أن ننتظر ونرى".