أميركا تنزلق مجدداً إلى السجالات العنيفة. الرئيس الأميركي جو بايدن يتّهم سلفه دونالد ترامب بأنه "عدو للديموقراطية" فيردّ الأخير بأنّ خلفه "عدوّ للدولة". يخدم تجدّد هذا السجال الأجندات الانتخابية قبل شهرين من الاستحقاق. لكن أبعد من ذلك، لا يبدو أنّه يخدم قضيّة الديموقراطيّة الأميركيّة، وهي قضيّة يدّعي الطرفان أنّهما يحرصان عليها.
هجوم عنيف وتوضيح
بدأ الأمر مع خطاب ألقاه بايدن يوم الخميس."دونالد ترامب وجمهوريو "ماغا" يمثّلون تطرّفاً يهدّد أسس جمهوريتنا". و"ماغا" هي اختصار لشعار "اجعلوا أميركا عظيمة مجدّداً". قال بايدن إنّ "المساواة والديموقراطيّة تتعرّضان للهجوم"، وإنّ ترامب ومؤيّديه "لا يحترمون الدستور... ولا يعترفون بسيادة القانون".
طلب الرئيس الأميركي من "الديموقراطيين، المستقلّين والتيار السائد من الجمهوريين" أن يكونوا "أقوى، أكثر تصميماً وأكثر التزاماً بإنقاذ الديموقراطية من جمهوريي "ماغا"". وأضاف: "لفترة طويلة، طمأنّا أنفسنا بأنّ الديموقراطية مضمونة، لكنها ليست كذلك". ودعا جميع الأميركيين، "بصرف النظر عن إيديولوجيتهم"، إلى رفض التطرف والعنف، وإلى قبول نتائج الانتخابات مهما تكن.
انتقد قسم من المراقبين خطاب بايدن لأنّه اتّهم نصف الأميركيّين بأنّهم لا يحترمون الدستور، وبأنّهم يزعزعون استقرار الدولة. حاول بايدن في كلمته التمييز بين الجمهوريين وموالي ترامب: "ليس كلّ جمهوري، ليس معظم الجمهوريين حتى، من جمهوريي ماغا. لا يعتنق كلّ جمهوري عقيدتهم المتطرفة". لكنّه تابع بأنّه "ما من شكّ في أنّ الحزب الجمهوري اليوم، مسيطر عليه... من دونالد ترامب وجمهوريي ماغا. وهو تهديد لهذه البلاد".
ثمّ عاد وأوضح يوم الجمعة بأنّه لا يرى في كلّ داعم لترامب "تهديداً". وقال أمام مراسلين إنّه "حين صوّت الناس لدونالد ترامب، لم يكونوا يصوّتون لمهاجمة الكابيتول. لم يكونوا يصوّتون لإلغاء الانتخابات".
ترامب وضبط النفس لا يلتقيان
ردّ ترامب الأوّل جاء عبر منصّة "سوشل تروث" فوصف بايدن بأنه "لا بدّ أن يكون مجنوناً، أو معانياً من الخرف في مرحلة متأخّرة". وكتب أنّه إذا لم يكن بايدن فعلاً يريد أن يجعل أميركا عظيمة مجدداً "فعندها يجب بالتأكيد ألّا يمثّل الولايات المتحدة الأميركية!"
الردّ الثاني جاء من بنسلفانيا خلال تجمع انتخابي دعماً لمرشّحَين جمهوريّين إلى منصب الحاكميّة وأحد مقاعد مجلس الشيوخ. أعاد ترامب التصويب على بايدن معتبراً إياه "عدو الدولة". لكنّه في معرض انتقاده لبايدن، انتقد أيضاً المدينة البارزة في الولاية، فيلادلفيا، التي اختارها بايدن لتوجيه خطابه: "أعتقد أنّ فيلادلفيا كانت خياراً عظيماً لإلقاء خطاب الكراهية والغضب". وتابع: "السنة الماضية، سجّلت المدينة رقماً قياسياً في جرائم القتل مع 560 جريمة، وهي على طريق كسر هذا الرقم مجدداً في 2022". وكان ترامب يشير إلى وتيرة الجرائم المرتفعة في المدن والولايات الديموقراطية بحسب اتهاماته.
ابتلع الطعم
بحسب الكاتب في مجلة "أتلانتيك" ديفيد فرام، رمى بايدن الطعم والتقطه ترامب. كان الجمهوريون يريدون خوض الانتخابات النصفية على أساس انتقاد بايدن بسبب عدم قدرته على مكافحة التضخم وارتفاع أسعار الوقود وغيرها من القضايا الاجتماعية. لم يكن الجمهوريون يريدون أن يكون ترامب على الإطلاق محور حملتهم الانتخابية. لكن ما فعله بايدن هو أنّه جرّ الرئيس السابق إلى الأضواء مجدّداً ممّا سينعكس سلباً على حساباتهم الانتخابية.
تكثر الأدلّة على أنّ هذا كان مقصد بايدن. ألقى الرئيس الأميركي خطابه من المدينة التي أُعلن فيها استقلال الولايات المتحدة والدستور الأميركي. وغرّد جيف زيليني من "سي أن أن" كاتباً أنّ وقوف رجلين من المارينز خلف الرئيس يعدّ تخلياً عن تقاليد البيت الأبيض.
مناورة
رأت صحيفة "وول ستريت جورنال" أنّ استراتيجية بايدن في جعل ترامب محور الانتخابات مساعِدة له. فـ"فائدته الأساسية، وربما الوحيدة، للديموقراطيين هي أنّه الرجل الذي هزم السيّد ترامب". وأضافت أنّ بايدن غير الشعبيّ لن يحظى بتأييد الجيل الشاب من الديموقراطيين في 2024، لكن لو ترشّح الرئيس السابق مجدّداً، "فالسيد بايدن لديه علّة وجود".
وإذا ظنّ الناخبون أنّ ما هو على المحكّ في تشرين الثاني مستقبل الديموقراطيّة بدلاً من التضخّم وارتفاع الجرائم فقد يحتفظ الحزب بسيطرته على الكونغرس. وتابعت أنّ الجمهوريّين (حكام ولايات ومشرّعين وقضاة ومايك بنس) رفضوا قلب النتائج، ولم يذكرهم بايدن لأنّ حديثه عن الديموقراطية "مناورة سياسية".
انتقاد بايدن كان واضحاً حتى في الصحف المقرّبة من الديموقراطيّين. كتب روس دوثات في صحيفة "نيويورك تايمس" أنّ المعزوفة هي دوماً نفسها: تحذيرات رهيبة من الاستبداد الترامبي من جهة، وأجندة حزبية صارمة لا تقدّم أرضيّة لهدنة إيديولوجية أو تنازلات لمن هم خارج الخيمة الليبيرالية من جهة أخرى. لقد حذّر بايدن من تآكل أعراف الديموقراطية بعد أسبوع على إعلانه بطريقة تشبه قرارات القياصرة عن خطة إعفاء لديون الطلاب بقيمة 500 مليار دولار من دون التشاور مع الكونغرس. بالنسبة إلى الكاتب، إنّ الديموقراطية الأميركية غير مهدّدة. هذا الشعار هو مجرّد "عملية سياسيّة يمثّل فيها تهديد الديموقراطية" رافعة للديموقراطيين.
ورأى هنري أولسن في صحيفة "واشنطن بوست" أنّ خطاب بايدن الأخير كان "مصمّماً لحماية الديموقراطيين، لا الديموقراطية".
ضربة للجمهوريين؟
خلال حملته الانتخابية، وعد بايدن الناخبين بالعمل على معالجة الشرخ والاستقطاب في المجتمع الأميركيّ. لم ينجح بايدن في تحقيق وعده. لكن الأخطر ربّما أنّه يسلك إلى حدّ ما مسار سلفه في الاتّكال على التجييش الحزبيّ الضيّق لغايات انتخابية، إن صحّت التحليلات الأخيرة. وثمّة ما يكفي من الأدلّة لترجيح ذلك. نجح بايدن في دفع ترامب إلى الفخّ الذي نصبه. قد تكون تكلفة ذلك على الجمهوريّين كبيرة. لكنّ التكلفة على الحياة السياسيّة الأميركيّة ستكون أكبر.