لم ينج ما تبقى من تراث الأديان السماوية القديم عندما أتى زلزال على مناطق كثيرة من أنطاكية في جنوب تركيا الشهر الماضي، لكن كثيرين يأملون في أن تنهض المدينة من تحت الأنقاض كما حدث في السابق بعد كوارث وغزوات تعرضت لها على مدار قرون.
احتضنت أنطاكية التي أقامتها الإمبراطورية السلوقية عام 300 قبل الميلاد اليهود والمسيحيين والمسلمين، وتعرضت مرارا للدمار أو لأضرار شديدة مع تناوب الإغريق والرومان والعرب والعثمانيين الحكم.
وتركز الكثير من جهود الإنقاذ بعد زلزال السادس من شباط على الجانب السكني الذي بُني حديثا في أنطاكية، حيث باغت الزلزال الآلاف أثناء نومهم ليسحقهم أو يحاصرهم تحت الأنقاض. وقُتل ما يقرب من 52 ألفا في المجمل في كل من تركيا وسوريا.
وعلى الضفة المقابلة لنهر العاصي، في البلدة القديمة التي كانت ذات يوم مقصدا سياحيا شهيرا، دُمرت مساجد وكنائس. ولم تكن جهود الإنقاذ كبيرة في المنطقة التي كانت تعج بالشركات أكثر من المنازل، بينما كانت قوات الأمن تقوم بالحراسة من اللصوص في كل زاوية.
وكان عبد الرحمن كوردو الذي يدرس إدارة الأعمال ويدير فندقا قريبا من الكنيسة الأرثوذكسية المدمرة بأنطاكية، يبحث في الأنقاض لإنقاذ ما يمكنه من تراث أنطاكية. وعثر حتى الآن على نسخة من مجلة هاتاي في السبعينيات تحتفل بالحياة في الإقليم الواقع في أقصى جنوب تركيا.
وقال "الأنقاض في هذه المنطقة ليست من أكوام خرسانية وصخور وبلاط الأسقف فحسب، إنما ايضا تقبع ثقافة هاتاي تحتها".
وأضاف "ما تعلمناه ممن سبقونا هو أن هاتاي شهدت سبعة زلازل في تاريخها، لكنها نفضت غبارها وولدت من جديد. نعتقد أن هاتاي ستولد من جديد وتنفض الغبار مرة أخرى".
ولا يمكن الدخول الآن لفناء الكنيسة، التي أعيد بناؤها بعد زلزال 1872، إلا من شارع جانبي عن طريق تسلق كومة من الأنقاض.
لوحات القديسين
سقط البرج الذي يضم جرس الكنيسة ووضعت عليه ملابس كي ينتفع بها ضحايا الزلزال. وتصعب ملاحظة مدخل الكنيسة من الفناء، فلا تمكن رؤية الباب من خلف الأنقاض التي يوجد بينها صليب.
ويغطي ركام السقف المنهار الأرض، وعلى الحوائط لوحات عدة للمسيح والقديسين مائلة ويغطيها بالغبار والطين، في حين سقط البعض الآخر بين الحطام.
أما مسجد حبيب النجار الذي يُقال إنه أول مسجد في شبه جزيرة الأناضول، فإنه يعود تاريخه إلى الإمبراطورية الرومانية حين كان يُعتقد أن معبدا وثنيا كان في مكانه. وتحولت كنيسة شيدت مكانه إلى مسجد ثم عادت لتكون كنيسة، وهو نمط يتكرر مرات عدة. وآخر مرة أعيد بناؤه كان في القرن التاسع عشر أيام الإمبراطورية العثمانية بعد وقوع زلزال.
وانهارت المئذنة في كارثة الشهر الماضي ولا يمكن رؤية سوى جزء صغير من القبة فوق المنبر خلف حطام الجدار الأمامي الذي سقط في الفناء، فيما تبدو ثلاثة جدران أخرى سليمة.
وانهار الجامع الكبير الذي يعود تاريخه إلى القرن الثامن عشر، كما سقطت مئذنة جامع السليمية الذي بني في القرن السادس عشر. ودُمرت مبان تاريخية أخرى من بينها مكتب المحافظ.
وتذكر كوردو كيف كان الناس من مختلف الديانات يتعايشون في المدينة. وقال "عشنا دائما معا، وكبرنا معا... ونعتقد أننا سننهض كقوة واحدة بهاتاي مرة أخرى".
وكان شاول جينودي أوغلو زعيم الجالية اليهودية في أنطاكية وزوجته تونا جينودي أوغلو من بين ضحايا زلزال السادس فبراير شباط.
وقال الحاخام ميندي تشيتريك رئيس تحالف الحاخامات في الدول الإسلامية إن معبد أنطاكية اليهودي لا يزال قائما لكن الجدران متصدعة والركام في كل مكان.
"التعايش والتسامح"
ظلت أنطاكية موطنا لليهود لأكثر من 2300 عام، لكن عدد الجالية تقلص إلى أقل من 20 شخصا في السنوات القليلة الماضية.
وقال تشيتريك "مهما كانت صغيرة، فإنها جزء مهم جدا في قلب المدينة... يظهر قلب أنطاكية دائما هذا التعايش والتسامح. من المدهش جدا رؤية هذا الارتباط الحقيقي بين التقاليد والثقافات والخلفيات العرقية المختلفة".
وقال الحاخام إنه جاء إلى أنطاكية بعد الزلازل للاطمئنان على الجالية اليهودية ونقلها إلى إسطنبول.
وأضاف أن دخول المعبد اليهودي يشي بأن "تاريخ 2500 عام قد انتهى"، لكنه أنقذ لفائف التوراة القديمة التي يعود تاريخها إلى مئات السنين ليحتفظ بها حتى يُعاد بناء المعبد.
وقال "كنا نخرج نسخ التوراة وآخر اليهود من المدينة. ستعود التوراة وسيعاد افتتاح المعبد. ستكون هناك حياة يهودية مرة أخرى في أنطاكية".
وقالت المهندسة المعمارية وخبيرة الترميم أولجاي أيدمير إن المنطقة تعرضت لزلازل على مدى آلاف السنين وإن جهود الترميم يجب أن تكون حساسة.
وقالت "ستنهض هذه المباني من رمادها... ينبغي عدم التخلص من هذه الصخور. تجب إعادة استخدام تلك التي يمكن إعادة استخدامها".
وأضافت أن المباني التي لا تزال أجزاء منها قائمة، مثل مسجد حبيب النجار، تحتاج إلى تدعيم، مضيفة أنه يجب فحص كل مبنى منهار على حده للتعلم من الماضي وتطبيق الدروس المستفادة في المستقبل.
وأضافت "الزلزال الأخير كان أكبر من المتوقع. لكنه جلب معه بيانات مهمة يمكن أن تخبرنا عن نقاط ضعف المباني وأسباب انهيارها".