هو المعروف بـ"ثعلب السياسة" الأميركية وآخر مسؤول لا يزال على قيد الحياة من إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون. إنّه وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأسبق هنري كيسنجر الذي بلغ في 27 أيار 99 عاماً.
بالاعتماد على هوية الشخص الذي تسأله، كما كتب دانيال دو بتريس في مجلة "نيوزويك"، إنّ كيسنجر هو إمّا "الواقعيّ الجوهريّ الذي نسّق الانقسام بين الصين الشيوعية والاتحاد السوفياتي أو مجرم حرب وافق على أكثر من 3800 غارة بالقنابل على كمبوديا".
أثار كيسنجر جدلاً واسعاً مؤخراً، ولا يزال، حين نصح خلال منتدى الاقتصاد الدولي في دافوس الأوكرانيين بالاستعداد للتخلي عن بعض الأراضي لصالح روسيا بغية التوصل إلى سلام معها وضمان "الاستقرار" في أوروبا.
"تحتاج المحادثات أن تبدأ خلال الشهرين المقبلين قبل أن تؤسس اضطرابات وتوترات لن يتمّ التغلّب عليها بسهولة. من الناحية المثالية، يجب أن يكون الخط الفاصل هو العودة إلى الوضع السابق". وأضاف أنّ "السعي وراء الحرب أبعد من تلك النقطة لن يتعلق بحرّيّة أوكرانيا، بل بحرب جديدة ضد روسيا نفسها".
ينتمي كيسنجر إلى مدرسة "الواقعية السياسية" التي تشغل موقعاً نقيضاً للمدرسة "المثالية" في قراءة العلاقات الدولية. تستند الأولى إلى اعتبارات عملية عوضاً عن الاعتبارات الأخلاقية أو العقيدية. بهذا المعنى، تقوم الواقعيّة على التكيف مع الأمور كما هي بدلاً من مقاربتها ومحاولة تغييرها من زاوية القيم.
يمكن فهم نصيحة كيسنجر لأوكرانيا بأنّها نابعة من قراءة "موضوعية" لهواجس روسيا الأمنية من جهة ومن حجم ما تنوي الولايات المتحدة استثماره في دعم كييف من جهة أخرى. بطبيعة الحال، يدخل عامل توازن القوى هذه المعادلة. مهما حصلت أوكرانيا على السلاح بنظر البعض فهي ستكون أعجز من دحر روسيا إلى ما وراء الحدود التي تخطتها روسيا بعد انطلاق الغزو في 24 شباط، على اعتبار أنّ هذا ما يقصده كيسنجر من خلال عبارة "الوضع السابق".
من نابوليون إلى بوتين
لقي كلام كيسنجر تأييداً ممّن يصنّفون أنفسهم في خانة الواقعيّة. أستاذ الممارسة في جامعة آدا الأذرية داميان ميسكوفيتش كتب مقالاً في موقع "ناشونال إنترست" دافع فيه عن كيسنجر مشيراً إلى أنّ الإدارة الأميركية وحلفاءها يرون الحرب كتمظهر "أبيض-و-أسود" للصراع العالمي بين مؤيّدي الديموقراطية والأوتوقراطية. يشرح الكاتب هذا الأمر على أنه رد فعل "عاطفي" مفهوم، لكنّه يحذّر من خلط التفسير الجيوسياسيّ بـ"الإسخاتولوجيّ" (علم الأخرويات ومآل النفس البشرية). على سبيل المثال، إنّ محاولة فرض "نظام ليبيراليّ دوليّ مبنيّ على القواعد" في ظروف تزداد التعدديّة حدّة ضمنها هو مؤشّر "غطرسة". ويؤكّد أيضاً أنّ أوكرانيا هي موضوع العلاقات الدولية لا فاعل فيها، بصرف النظر عن شعور المراقب حيال ذلك.
لكن على الضفة الأخرى من التحليل السياسي، يعتقد البعض أنّ ما يتحاشى دعاة تخلّي أوكرانيا عن جزء من أراضيها التطرّق إليه هو الضمانات التي يمكن أن تحصل عليها كييف في أن تكون "حزمة التنازل" المطلوبة هي الأخيرة. طوال ثمانية أعوام، كانت روسيا قد حصلت بحكم الأمر الواقع على أكثر من ثلث منطقة دونباس إضافة إلى القرم. لم يمنع ذلك موسكو من شنّ حرب إضافيّة لكسب المزيد من الأراضي.
هذا ما يكتبه أستاذ القانون في جامعة جورج تاون ديفيد سوبر في صحفة "ذا هيل" الأميركية: "لقد حاولت أوكرانيا بالضبط ما يقترحه كيسنجر في 2014، موافقة على وقف لإطلاق النار، مع سيطرة روسيا على أجزاء كبيرة من أراضيها في القرم ودونباس". بحسب رأيه، "إنّ مكافأة المعتدين – معاقبة أولئك الذين يقاومونهم –يؤسّس لا للاستقرار بل للمزيد من الاعتداء". ويرجّح أنّ ستالين كان سيطالب فنلندا بتقديم المزيد من التنازلات علاوة على تلك التي قبلت بها بعد حرب الشتاء (نحو 9% من أراضيها) لو لم ينشغل بالحرب على هتلر. كذلك، إنّ أوروبا القرن التاسع عشر التي يستشهد بها كيسنجر دوماً لم تحافظ على استقرارها إلّا بعد معاقبة نابوليون بونابارت على اعتداءاته.
ثمّة جملة قالها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في آذار 2014 أمام المشرّعين الروس يمكن أن تعطي مناهضي كيسنجر حجّة لتحليلهم: "اصغوا إليّ أيها الأصدقاء الأعزّاء... لا تصدّقوا الذين يريدونكم أن تخشوا روسيا، صارخين أنّ مناطق أخرى ستتبع القرم. لا نريد تقسيم أوكرانيا؛ لسنا بحاجة إلى ذلك". هذا التصريح وحده قادر على تقويض أيّ حجّة بأنّ روسيا لن تعيد غزو أوكرانيا في المستقبل. وعلى أيّ حال، ليس واضحاً أساساً أنّ موسكو تبحث عن مخرج للأزمة كي يتقدّم بعض الواقعيّين باقتراحاتهم.
أقل خطر وكلفة
في قراءة للتوازنات الدولية اليوم، ربّما هنالك عامل إضافي لم يكن موجوداً قبل الحرب العالمية الثانية وهو السلاح النووي. كغيره من المراقبين، يعتقد ميسكوفيتش أنّ المطالبات بدحر الروس واستعادة جميع الأراضي بما فيها القرم قد تؤدّي إلى استخدام موسكو سلاحاً نووياً أو أكثر. لكنّ بنجامين ويتيس من "معهد بروكينغز" يقلّل من هذا الاحتمال لأنّ روسيا والولايات المتحدة تلتزمان منذ عقود بالردع النووي وتفهمانه، كما أنّ التصعيد النوويّ لا يحدث بنقرة زر بل ينطلق من عمليّة احتكاك طويلة تعطي الطرفين وقتاً لإعادة المعايرة وتجنّب الخطر. لا يعني ذلك أنّ مخاطر التصعيد غير واقعيّة، لكنّها خاضعة للمبالغة كما غرّد.
من ناحية أخرى، ثمّة أفكار أخرى يعتنقها كيسنجر تساهم في خروجه بخلاصات كهذه. بحسب "وول ستريت جورنال"، يرى كيسنجر أنّ مهمة واشنطن هي الدفاع عن توازن قوى يحمي حريتها وحرية حلفائها بأقل خطر وكلفة ممكنة. بصورة عامة، ليس لدى الأميركيين مهمة لتحويل الروس والصينيين إلى اعتناق الديموقراطية مع ضرورة الاعتراف بأنّ القوى العظمى الأخرى تملك حقوقاً ومصالح يجب احترامها.
مع ذلك، لم يقل مناوئو تفكير كيسنجر العكس. قلّة ترى اليوم ضرورة نشر الديموقراطية كما فعل جورج بوش الابن. فقد بات هذا الهدف شبه مستحيل لأنّ الأنظمة الديموقراطية نفسها تعاني من تفسّخات داخليّة. من ناحية ثانية، لم يصمّ الغرب آذانه عن المطالب والهواجس الروسية بعدما عقد اجتماعات عدة معها في كانون الثاني الماضي. مجرّد جلوس الأميركيين مع روسيا لمناقشة هيكلية أمنية جديدة لأوروبا مؤشّر إلى أنّ واشنطن حاولت أن تلاقي موسكو إلى منتصف الطريق. لكنّ القبول بهدف روسيا القاضي بالسيطرة على أراضي دولة كاملة العضوية في الأمم المتّحدة، يقوّض النظام العالميّ أو أقلّه "استقرار" أوروبا الذي يريد كيسنجر الدفاع عنه.
هذا ما توقّعه أيضاً
ربّما تنبع مقترحات كيسنجر من اعتقاده بأن روسيا ليست الخطر الأول على الولايات المتحدة بل الصين. وبالتالي، إنّ إغلاق الملفات العالقة مع روسيا يسهّل على واشنطن التركيز على بكين. لكنّ الإدارة الأميركيّة قد لا تكون بعيدة من هذه الرؤية. أحد أسباب إعفاء بايدن السنة الماضية مشروع "نورد ستريم 2" من العقوبات لم يكن إرضاء ألمانيا وحسب بل أيضاً إرضاء روسيا، وبطريقة من الطرق، تحييدها عن الصراع الأميركيّ-الصينيّ. وألمانيا أيضاً كانت تجادل بأنّ هذا المشروع، والانفتاح الاقتصاديّ عموماً على روسيا، يجعل الأخيرة أكثر اندماجاً في أوروبا.
بمعنى آخر، ما اقترحه كيسنجر لجهة أخذ مصالح روسيا بالاعتبار ليس فكرة جديدة. جرّب الأوروبيون فكرته في السابق من دون نجاح. حتى اتفاقية مينسك-2 هدفت بحسب محلّلين أوكرانيّين، وبفعل ضبابيّتها، إلى إعطاء الوقت لموسكو كي تستعيد المبادرة وتقلب موازين القوى في شرق البلاد. مع ذلك، يعتقد مراقبون أنّ لأفكار الواقعيين احتمالات كبيرة للنجاح.
رأى ديفيد هورسي في صحيفة "سياتل تايمز" أنّ الواقعيين على حق في أغلب الأحيان إذ إنّ الخيار العملي الوحيد في الديبلوماسية هو خيار غير مثالي أفضل من آخر سيئ. لكنّ هورسي يظهر أيضاً كيف أخطأ كيسنجر حين كتب في السبعينات أنّ الحرب الباردة ستسمرّ لعقود كثيرة وربما لقرن إضافيّ. غير أنّ الاتحاد السوفياتي تفكك بين ليلة وضحاها.
لغاية اليوم، يبدو أنّ الإدارة الأميركية ستترك الأوكرانيّين يقرّرون ما إذا كانوا يريدون التخلّي عن أراضيهم للتوصّل إلى اتّفاقية سلام مع الروس. كييف ليست حالياً في هذا الوارد على الإطلاق. تغيّرُ موقفها في المستقبل أمر محتمل. لكن كذلك موقف الروس بشأن مواصلة الحرب. لا تزال الضبابيّة سيّدة المشهد.