حركة تغييريّة ما تنشأ داخل الحزب الجمهوري. والهدف السياسة الخارجية للحزب خصوصاً والولايات المتحدة عموماً. هي محاولة لإعادة تحويل الميل إلى "التدخّليّة" الذي ساد الحزب طوال العقدين الأخيرين باتّجاه سياسة "ضبط النفس". الملفّ الأوكرانيّ سلّط الضوء أكثر على هذه الحركة، هذا إن لم يكن قد أعطاها زخماً أكبر للانتشار.
حين سعت إدارة الرئيس جو بايدن لإرسال حزمة مساعدات بقيمة 40 مليار دولار إلى أوكرانيا، اعترض 11 سيناتوراً جمهورياً على تلك الخطوة. قاد السيناتور راند بول الاعتراض مع مجموعة من الحركات والشخصيات ومؤسّسات الرأي المحافظة وفقاً لموقع "أكسيوس" الأميركي. وقال ناطق باسم السيناتور للموقع نفسه إنّ الترويج لأجندة "واقعية" في السياسة الخارجية احتل دائماً الأولوية بالنسبة إليه.
ورأى بول الملفّ الأوكرانيّ كمحفّز للعناصر "الواقعية" كي تتّحد ويكون لها صوت وازن في انتخابات 2024 كما لمنع الولايات المتحدة من الغرق أكثر في التدخلات العسكرية الخارجية. وقال شخص منخرط في الجهد السياسي إنّ لكلّ مشرّع سببه الخاص للتصويت بـ"لا". منهم لأسباب تتعلّق بالسياسة الخارجية أو لاخرى مرتبطة بسرعة تمرير الحزمة أو بإعطاء أولويات الإنفاق إلى الداخل. "لكن لا أعتقد أنّكم سترون هذا التحالف الموسّع لو لم يكن بسبب إعادة التقييم الحقيقية للسياسة الخارجية الأميركية الحاصلة في المؤتمر الجمهوري"، أضاف الشخص نفسه.
الغالبية في مكان آخر
كيفيّة تطوّر الحركة تبقى رهن المتابعة خصوصاً بعد الانتخابات النصفية المقبلة. يتوقّع القسم الأكبر من المحلّلين خسارة الحزب الديموقراطيّ غالبيته النيابية في الخريف. يذهب البعض أبعد من ذلك ليشير إلى أنّ الجمهوريّين سيحقّقون أكبر مكسب لهم منذ سنة 1928. من هنا ثمّة حاجة لمتابعة تأثير الجناح "الواقعيّ" في الحزب الجمهوريّ على المشرعين المقبلين.
لكن قبل الوصول إلى هذا الاستحقاق، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الغالبيّة الجمهوريّة لا تزال على ضفّة واضحة في الخيارات الاستراتيجيّة. 11 سيناتوراً من أصل 50 و57 نائباً جمهورياً من أصل 208 صوّتوا ضدّ حزمة المساعدات لأوكرانيا. بشكل أكثر تحديداً، عارض نحو ربع المشرّعين الجمهوريين في الكونغرس تلك الحزمة. بطبيعة الحال، يمكن أن يزداد حجم الاعتراض على دعم أوكرانيا عسكرياً. لكنّ أسباب توسّع هذا الاعتراض قد تكون متنوّعة ولا تتعلّق فقط باتّباع سياسة خارجيّة أكثر "انعزالية"، على الأقلّ ليس بشكل مباشر.
موقف القاعدة الشعبية
قد يتعب الشعب الأميركيّ من تداعيات العقوبات المفروضة على روسيا والتي تنعكس ارتفاعاً في الأسعار المحلية. لو تمكّن بايدن من تحصين الولايات المتحدة في مواجهة التضخّم الحاليّ الذي وصل إلى مستوى قياسيّ لم تشهده البلاد منذ أربعين عاماً، فلن يكون جزء من المشرّعين مضطراً للمطالبة بتخفيف الدعم العسكري لأوكرانيا أو بإيجاد حلّ سريع للحرب.
ووجدت شركة "مورنينغ كونسالت" لاستطلاعات الرأي أنّ نسبة الجمهوريين الذين قالوا إنّ الولايات المتحدة تقدّم الكثير من المساعدات إلى أوكرانيا ارتفعت من 13% في مارس (آذار) إلى 27% في أواسط مايو (أيار). وفي الفترة نفسها أيضاً، انخفضت نسبة الجمهوريين الذين قالوا إنّ الولايات المتحدة تقدّم القليل من المساعدات من 36% إلى 25%.
وخلص استطلاع آخر للمؤسسة نفسها إلى أنّ 53% من الجمهوريين أيّدوا فرض عقوبات على روسيا حتى لو تسبّبت بالتضخم في الولايات المتحدة أوائل أبريل (نيسان) إلى 41% في أوائل يونيو (حزيران) الحالي.
على أيّ حال، ليست الحرب الروسية-الأوكرانية مسؤولة بشكل كامل عن التضخّم، إذ ثمّة عوامل أخرى مؤثّرة مثل انتعاش الاقتصاد بعد "كوفيد-19" وما نتج عنه من ارتفاع سريع على الطلب وعجز سلسلة الإمدادات عن تلبيته. ويمكن أن يكون افتقار الإدارة لهدف محدّد وراء دعم أوكرانيا، أو تركها مجالاً واسعاً لكييف كي تتخذ القرار الذي يناسبها واقتصار دور واشنطن على "تحرير الشيكات" سبباً من أسباب الاعتراض.
عناصر أخرى للمراقبة
لا بدّ من الإشارة إلى أنّ مفهوم "الواقعية" أو حتى "ضبط النفس" لا يتناقض دائماً مع "التشدّد" في السياسة الخارجية. ولا يعني التشدّد هو الآخر سياسة تدخّليّة على طريقة بوش الابن. راند بول أقرب إلى "الانعزاليّة" مثلاً. هو عارض ترامب حتى في السياسة الإيرانيّة. لكنّه الصوت شبه الوحيد في هذا الاعتراض. ثمّة كتلة جمهورية متراصّة في الكونغرس تؤيّد "حملة الضغط الأقصى". من ناحية ثانية، يمكن الإشارة أيضاً إلى أنّ مؤسّسة "هيريتدج" التي باتت أقرب إلى "ضبط النفس" في السياسة الخارجية والتي كان ممثّلون عنها حاضرين في اجتماعات بول، لا تزال تؤيّد مثلاً توسيع حلف شمال الأطلسيّ.
لمعرفة الاتجاه العام في السياسة الخارجية للحزب الجمهوري في السنتين المقبلتين على الأقلّ، ثمّة ضرورة أيضاً لمراقبة توزّع مراكز القوى داخل الحزب. تشير الباحثة المتميّزة في "معهد المشروع الأميركيّ" دانيال بَلتكا إلى أنّ معظم المناصب القياديّة في الكونغرس (رئاسة الغالبية واللجان المختصّة) ستؤول إلى جمهوريّين متشدّدين في السياسة الخارجية. وذكرت في مجلة "فورين بوليسي" أنّ الجمهوريّين متفقون على تعزيز أمن بلادهم الطاقويّ وزيادة الإنفاق الدفاعيّ لافتة كذلك إلى الفرق بين تغريدات ترامب وبين سياساته المتشدّدة تجاه الصين وروسيا وإيران وغيرها والتي حازت على دعم من جمهوريّي الكونغرس والقاعدة الشعبية.
بذور
على الرغم من ذلك، ثمّة مؤشّر لافت تبيّنه استطلاعات الرأي بشكل جليّ. إنّ النسبة الأكبر من الاعتراض على السياسة الخارجية الأميركية تجاه أوكرانيا موجودة عند القاعدة الشعبية للجمهوريين لا المستقلّين، وبالتأكيد ليس عند الديموقراطيّين. على مستوى الكونغرس، وبصرف النظر عن أنّ حجم الاعتراض على حزمة المساعدة الأخيرة بقي محدوداً بين المشرّعين الجمهوريين، يمكن ملاحظة أنّ الأصوات الديموقراطية المعترضة على هذه الحزمة، سواء في مجلس النواب أو الشيوخ، كانت معدومة.
يظهر ذلك بذور تغيّر في الاتّجاه العام للسياسة الخارجيّة في الحزب الجمهوريّ. على المدى البعيد، يصعب معرفة ما إذا كانت هذه البذور ستثمر رؤية جديدة لموقع أميركا العالميّ أم ستموت سريعاً. لكن على المدى القريب وحتى المتوسّط، لا يمكن الرهان على تغيّر كبير في هذا الاتّجاه.