النهار

يوم استدعت الملكة إليزابيث تشرشل لتذكيره بالمعنى العميق للدولة
روزيت فاضل
المصدر: "النهار"
يوم استدعت الملكة إليزابيث تشرشل لتذكيره بالمعنى العميق للدولة
رئيس الوزراء ونستون تشرشل والملكة إليزابيث الثانية.
A+   A-
يتلاشى الإحساس بالدولة شيئًا فشيئًا في بلدان عدّة، ولاسيّما عندما نتحدّث عن الشعور بالدولة، وليس عن الدولة نفسها.

يمكننا تقديم هذا المثال التاريخيّ الذي ظهرت فيه يومًا الملكة إليزابيث الثانية ورئيس الوزراء الاستثنائيّ ونستون تشرشل في الخمسينيات من القرن الماضي، للحصول على فكرة عن المعنى العميق للدولة.

كانت إليزابيث الثانية لا تزال صغيرة جداً عندما اعتلت العرش في العام 1953 عن عمر يناهز الـ 25 عامًاً. لم تحظ، مثل معظم الملوك البريطانيين، بتعليم مدرسيّ كلاسيكيّ مشترك، بل تابعت مساراً تدريبياً متخصّصاً للملك في المستقبل...

بدأت بعد ذلك، بحكم وظائفها، ومنذ البداية، تتعاون مع رجال أكفّاء وأذكياء يتمتعون بخبرة الدولة، مثل تشرشل وأنطوني إيدن وخليفته وغيرهم.
 
 
 
النوبة القلبيّة
بعد عودته إلى السلطة عام 1951، كان تشرشل قريبًا جدًّا من والد إليزابيث، جورج السادس، الذي أثّرت وفاته في العام 1952 على ابنته، التي اعتبرته معلّمها، يقوم بتنويرها على المهام والوظائف التي كانت تنتظرها عند تسلّمها الحكم.

في الوقت، الذي كانت الملكة إليزابيث تبحث عن مدرّس في القصر لمساعدتها على إتقان المعرفة العامة والقراءة بشكل جيد، تعرّض تشرشل لنوبة قلبية في حينها. تعمّد وهو في الثمانينات من عمره الى إغفال الأمر عنها خوفاً من أن تطلب منه الاستقالة لأسباب صحية.
 
 
 
 
حاول معاونوه إيهام المقرّبين من الملكة أنّه مصاب بنزلة صدرية، التي فرضت عليه التغيّب أسبوعين عن الاجتماعات مع الملكة، ما أثار قلقها على صحته؟ وفرض هذا الواقع عليه إيجاد حجّة أكثر إقناعاً لها وهي أنه مصاب بالأنفلونزا و لا يزال طريح الفراش. أصرّ تشرشل على إخفاء الحقيقة عنها حتى لا تنتهي مسيرته، ولاسيّما أنّه كان يستعدّ للتوجّه إلى الولايات المتحدة للقاء الرئيس أيزنهاور قبل عقد قمّة مشتركة مع ستالين.

لكنّ الملكة إليزابيث عرفت مصادفة من أحد مساعدي تشرشل بوضعه الصحي الحقيقي، ما أثار غضبها كثيراً. لكنّها كانت مدركة أنّها غير قادرة على الاحتجاج لأنّه هامة وطنية، وقدّم الكثير لبلدها.

بين التاج والحكومة
رغم ذلك، استدعت الملكة إليزابيث تشرشل الى القصر، فلاحظ بمجرّد دخوله الى الاجتماع أنّ الجوّ كان مضطرباً بينهما.

بادرت الملكة الى الحديث مشيرة الى أنّها امرأة عادية لا تميل بطبيعتها الى الوعظ في كلامها. وشدّدت على أنّه "وفقاً لعاداتهم، على الرجل، الذي ينتخب رئيسًا للوزراء، أن يتمتع بسلامة العقل والجسد، وهذا إذا صدقت الشائعات، ما لم يكن عليه خلال الأسابيع القليلة الماضية، من خلال تعمّده منع إيصال معلومات إليها. فنظرت اليه قائلةً: "ما قمت به يهدّد الثقة بيننا".
 
 

نهضت إليزابيث الثانية وأحضرت دفتراً قديماً من دورة للشباب مع مدرّس سابق عن الدستور. اقتبست منه جملة قرأتها لتشرشل مفادها أنّ ثمة مؤسستين في الدستور البريطاني الأولى تجسّد الكفاءة وهي ممثلة بالحكومة، والثانية ترتبط مباشرة بالكرامة أي بالملك. أكملت شارحة له أنّ المؤسستين تعملان فقط في حال توفّر دعم من كلّ منهما للآخر، دعم مبنيّ على الثقة...
 
نظرت اليه مشيرة الى أنّ "ما قمت به في الأيام الماضية وضع بيننا هذه الثقة على المحكّ، لأنّه كان من الممكن أن يكون له عواقب وخيمة على أمن البلد".

أصغى تشرشل بصمت وخزي إلى هذا الاحتجاج الملكي، عن منطق السيادة، الذي لا يمكنه، بصفته رجل دولة، سوى تأييده.

إستمعت إليه بإصغاء طارحة عليه جملة أسئلة قائلة: "هل تحسّنت صحتك كما تصرّ لتمكينك من أداء واجباتك بشكل صحيح؟"

تابعت متوجّهة اليه: "أودّ أن أطلب منك التفكير قبل الإجابة، مع الأخذ في الاعتبار الاحترام الذي تستحقّه رتبتي ووظيفتي..."

"سيدتي"، ردّ تشرشل، "عندما أنظر إليك الآن، أرى أنّ الوقت قد مضى، وأن الوقت يقترب لإفساح الطريق لتسلّم الآخرين المهمة، ليس لأنّ حالتي الصحية ستجعلني غير مؤهّل لتأدية واجبي. بالنسبة لي، إنني قمت بواجبي تجاه والدك الراحل. إذا منحتني مباركتك ورأفتك، فسأستمرّ في قيادة حكومة جلالة الملك لبعض الوقت في المستقبل."

نهاية جلسة الاستماع
ترك تشرشل مهامه واستمرّ في توجيه خلفه لفترة محدّدة، مع العلم أنّ الدرس كان جيدًا. لقد رأى النهاية تقترب، خاصةً أنّه كان قد تحدّى بالفعل حزبه، الذي أراد أن ينصّب أنطوني إيدن لبعض الوقت في حينها على رأس الحزب والحكومة.
 

ختاماً، هذه هي الطريقة التي تدار بها شؤون الدولة في بريطانيا العظمى من دون أيّ عدوانية، بل بصدق وحكمة. يدرك المسؤولون فيها كيف يتحدّثون من أجل خير الأمّة والدولة.

Twitter :@rosettefadel
 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium