"يجب ألّا نذلّ روسيا حتى يتسنّى لنا حين يتوقّف القتال أن نبني مخرجاً من خلال القنوات الديبلوماسيّة". كما هي الحال مع كلام كيسنجر عن ضرورة تنازل أوكرانيا عن أراضيها للتوصّل إلى سلام مع روسيا، كذلك بالنسبة إلى حديث ماكرون في 4 حزيران عن ضرورة "عدم إذلال" روسيا على طريق إنهاء الحرب على أوكرانيا. وجد كلا التصريحين أصداء سلبيّة في أوروبا وأبعد.
الديبلوماسي والمستشار السابق لحملة ماكرون الرئاسية الأولى فرانسوا هيسبورغ أطلق انتقاده خلال مقابلة إعلاميّة مع قناة "أل سي إي" الفرنسية منذ أيّام. قال هيسبورغ، وهو أيضاً مستشار بارز للشؤون الأوروبية في "المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية" ومقرّه بريطانيا:
"لقد كنتُ في بولونيا، كنتُ في دول البلطيق، كنتُ في اسكندينافيا، مؤخراً خلال الأيام الخمس عشرة الماضية، وقد فقدنا التقدير والإصغاء من مجموعة من شركائنا الشماليين، من أوروبا الوسطى، والشرقية".
يقاطعه الإعلاميّ: "لأنّنا نتحاور مع بوتين".
"لا" يجيب هيسبورغ. "لأننا نقول إنّه يجب عدم إهانة بوتين. لا نقول ذلك وحسب، بل بعدها نكرّره، ومن دون تفسير ما يمكن أن يشكّل إذلالاً لبوتين. ما الذي يعنيه إذلال بوتين؟ جعله يخسر الحرب؟! (تنهيدة تعجّب) ليس لدينا الحق بجعل محتلّ يخسر الحرب؟! هل هذا هو الإذلال؟!"
أشاد هيسبورغ بنيّة فرنسا استضافة قوات من أوروبا الشرقية للمشاركة في الاستعراض بمناسبة العيد الوطني الفرنسي في 14 تموز، لكنّه لم يرَ أنّ ذلك سيردم "الهوّة" التي فتحتها باريس مع نصف أوروبا خلال الشهرين الماضيين.
دعم غير متوقّع
هذا الكلام القاسي لا يمنع ماكرون من الاعتماد على عدد من السياسيين الذين يؤيّدون توجّهاته وأبرزهم الخصوم. زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان قالت إنّ ماكرون "محقّ" في سياسته. وبحسب تقرير لشبكة "فرانس 24"، نادراً ما يمكن سماع مثل هكذا جملة على لسان رئيسة حزب "التجمع الوطني". لكنّها عارضت الرئيس في مسألة فرض حظر نفطيّ على روسيا قائلة إنّ ذلك سيتسبب بارتفاع الأسعار في فرنسا.
من جهته، وافق زعيم اليسار الراديكاليّ جان لوك ميلانشون الرئيس الفرنسي في ضرورة عدم قطع خطوط الديبلوماسيّة مع الكرملين لأنّه "يجب ألّا ندع هذا الرجل يحبس نفسه في الزاوية. لكن سيكون من الساذج الاعتقاد أنّه عبر التحدّث إليه، سنجعله يغادر أوكرانيا". وشجب كلاهما الانتقادات التي وجّهها زيلينسكي إلى كلام ماكرون.
حتى مع وضع هذا الكلام جانباً، كان زيلينسكي غير سعيد بمقترح ماكرون لتأسيس "مجتمع سياسي" مع الدول الطامحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لإعطائها روابط أقوى مع بروكسل. فهذا المقترح يعني أنّ فرنسا غير مستعجلة لتوسيع الاتحاد بحسب صحيفة "ألموند".
"إحراج"... لفرنسا
على الرغم من تمتّعه بدعم سياسيّ داخليّ لمواصلة مساعيه مع نظيره الروسيّ، يتعجّب الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات البريطانيّة "أم آي 6" جون سورز من أنّ ماكرون "لم يزعج نفسه" بزيارة كييف بعد أكثر من 100 يوم على اندلاع الحرب بينما أبقى على اتصالاته مع بوتين بشكل متكرر. ولاحظ أيضاً في صحيفة "فايننشال تايمز" كيف أنّ الشركات الفرنسية كانت الأكثر تردّداً في مغادرة روسيا ربّما على قاعدة أنّ البقاء فيها سيجعلها تقطف ثماراً مستقبلية. "يجب ألا نكون متفاجئين إذا كان قادة أوكرانيا حذرين من نوايا ماكرون".
لكن بالاستناد إلى كلام هيسبورغ، يبدو أنّ نصف أوروبا، إن لم تكن غالبيتها الساحقة باتت حذرة من نوايا الرئيس الفرنسي. وفي الوقت نفسه، يصعب الاعتقاد بأنّ التذمّر من سياسات ماكرون سيظلّ محصوراً في أوروبا. الانتقادات بدأت تظهر حتى على الضفة الأخرى من الأطلسيّ.
كاتب الشؤون القومية في صحيفة "غلوب أند مايل" الكندية غاري ماسون رأى أنّ تعليقات ماكرون "أحرجت فرنسا" بالرغم من تفهّمه لحاجة باريس إلى إنهاء الحرب بأسرع ما يمكن بالنظر إلى تداعياتها الدولية على الأمن والسلام والغذاء. لكنّ تحليل ماسون يتقاطع مع تحليل سورز: أيّ إنهاء للحرب في الوقت الحاليّ يعني احتفاظ روسيا بالأراضي التي سيطرت عليها حتى الآن... بانتظار الجولة المقبلة.
هذا ما حصل حين أبرم الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي اتفاقاً مع موسكو بشأن وقف الحرب على جورجيا، وحين أبرم خلفه فرانسوا أولوند والمستشارة الفرنسية أنجيلا ميركل اتفاقيّتي مينسك مع بوتين في 2014. اتّباعُ تسلسل الأحداث نفسه سيؤدّي حتماً إلى مكسب روسيّ مشابه في المستقبل القريب، يجادل الكاتبان.
رهانه أمام تحدّيات كثيرة
على عكس كيسنجر، لم يدعُ ماكرون أوكرانيا إلى تقديم تنازلات إقليميّة لصالح روسيا من أجل وقف الحرب. ما قاله ماكرون في 4 حزيران، كان تكراراً لما تحدّث عنه في 9 أيار أمام البرلمان الأوروبي حين أكّد أنّ "دور فرنسا هو قوّة وساطة".
لكن قياساً بالنتائج المحقّقة، أو عمليّاً غير المحقّقة حتى الآن، فشلت قوّة الوساطة في إحداث أيّ خرق. وفي الوقت نفسه، يبدو أنّ فرنسا تخسر جزءاً من رصيدها السياسيّ على المستوى القارّيّ. ربّما يراهن الرئيس الفرنسيّ على عامل الوقت الذي قد ينهك الأوكرانيين والروس لإعلان أنّ مواصلة فتح القنوات الديبلوماسيّة كان الخيار الأسلم منذ البداية.
غير أنّ هذا الرهان سيحتاج إلى أن تضمن فرنسا دوراً رياديّاً في التفاوض عندما يحين موعده. وهذا غير مضمون حاليّاً. ماذا لو تبيّن أنّ تركيا هي التي ستلعب هذا الدور في المستقبل؟ وماذا لو تمكّنت أوكرانيا من دحر القوّات الروسيّة بعد تمكّنها من دمج الأسلحة الجديدة في ترسانتها العسكرية؟ حتى في حال تأكّدت صحّة خيار ماكرون وقدّمت فرنسا حلّاً يساهم في إنهاء الحرب، هل سينجح حلّها في سحب القوات الروسية أقلّه إلى حدود 24 شباط أم سيعني أنّ ماكرون وقع في الأخطاء التي ارتكبها أسلافه؟
أسئلة صعبة تحاكي الوضع الصعب السائد في شرق أوروبا. أيّاً تكن الأجوبة التي في حوزته، يبدو أنّ ماكرون حسم رهانه بالرغم من كلّ الانتقادات. معرفة صوابيّته ستحتاج إلى بعض الوقت.