في توضيح أسباب زيارته المرتقبة إلى المملكة العربة السودية الأسبوع المقبل بعدما تعهد خلال حملته الانتخابية جعلها دولة "منبوذة"، كتب الرئيس الأميركي جو بايدن مقالاً في صحيفة "واشنطن بوست" ذكر فيها سلسلة نقاط تؤكد أهمية الزيارة. لفت بايدن سريعاً إلى انعكاسات الزيارة المتوقعة على الشعب الأميركي.
المفتاح الأهم
"تأتي هذه الزيارة في وقت حيوي للمنطقة، وستعزز مصالح أميركية مهمة"، وفقاً لما ذكره الرئيس في المقدمة. وتابع أنّ منطقة "شرق أوسط أكثر أمناً واندماجاً تفيد الأميركيين بطرق عدة. ممراتها المائية أساسية للتجارة العالمية وسلاسل التوريد التي نعتمد عليها. مواردها الطاقوية حيوية للتخفيف من التأثير على الإمدادات العالمية لحرب روسيا في أوكرانيا. ومنطقة تتلاقى عبر الديبلوماسية والتعاون – عوضاً عن التباعد من خلال النزاع – يصبح أقلَ احتمالاً تسببُها بارتفاع التطرف العنيف الذي يهدد موطننا أو بحروب جديدة يمكن أن تفرض عبئاً جديداً على القوات العسكرية الأميركية وعائلاتهم".
خاطب بايدن في هذه المقدمة الناخبين الأميركيين أولاً. إنّ مفتاح البقاء في السلطة، أو في المدى المنظور مفتاح الحد من الخسائر المتوقعة في الانتخابات النصفية، يكمن بيد المواطنين الأميركيين الذين لا تشكل السياسة الخارجية هماً مباشراً لهم إلا بمقدار انعكاسها على أوضاعهم المعيشية. يدرك الأميركيون أن التضخم الذي بلغ المستوى الأعلى منذ أكثر من أربعين عاماً يتعلق ببطء سلاسل التوريد في استيعاب عودة الاقتصاد إلى حجمه الطبيعي تقريباً بعد تراجع "كورونا"، كما يتعلق بتداعيات حرب أوكرانيا التي رفعت أسعار الطاقة بشكل جنوني. إحدى الطرق الأساسية لكبح جماح أسعار النفط تكمن بالتواصل مع السعودية، لا عزلها أو محاولة تهميشها. هذه هي باختصار الرسالة التي أراد بايدن توجيهها إلى الجمهور الأميركي في مقدّمة المقال.
الطرف الثاني
بعدها، انتقل الرئيس الأميركي إلى نقاط أكثر تحديداً تهمّ الجناح التقدمي أو اليساري في حزبه. كانت السياسة الأميركية تجاه السعودية إحدى نقاط الخلاف بين الجمهوريين والديموقراطيين عموماً، وبشكل أخص الجناح اليساري الداعي إلى أكبر تشدّد ممكن مع المملكة. يبدو أنّه تحتّم على بايدن أن يشرح سياسته الجديدة أمام هذا الجناح من خلال ما يتخطى تسليط الضوء على المصلحة الأميركية المباشرة من هذه الزيارة. كي يبدو أكثر إقناعاً لليسار، ذهب إلى مقارنة سياسته السعودية بسياسة سلفه دونالد ترامب تجاهها.
أشار بايدن إلى أنّ الشرق الأوسط أكثر استقراراً بعد ثمانية عشر شهراً على استلامه السلطة. فحين وصل إلى البيت الأبيض، كانت حرب اليمن تتصاعد من دون مسار سياسي في الأفق وازدادت تحذيرات مجتمعه الأمني من أنّ المنطقة تخضع لضغوط كبيرة. لهذا السبب، فعّل بايدن الديبلوماسية ممّا أنتج الهدنة في اليمن بحسب تعبيره: "بعد سنة من ديبلوماسيتنا المتواصلة، أصبحت تلك الهدنة منفّذة، وتصل المساعدة الإنسانية إلى مدن وبلدات كانت تحت الحصار. نتيجة لذلك، كانت الأشهر القليلة الماضية في اليمن الأكثر سلمية في سبعة أعوام". وكان اليسار في الكونغرس من أوائل الذين اقترحوا قطع الولايات المتحدة مساعداتها العسكرية إلى السعودية في حربها ضدّ الحوثيين.
واصل بايدن تسليط الضوء على الفرق الكبير بينه وبين ترامب في التعامل مع الشرق الأوسط ككل. كتب الرئيس الأميركي أنّ ترامب خرج من الاتفاق النووي من دون أن يجد بديلاً. "حين سعت الإدارة السابقة إلى إدانة إيران لهذا السلوك (تسريع البرنامج النووي) في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وجدت الولايات المتحدة نفسها معزولة ووحيدة".
إنّ اتهامات الإدارة السابقة بالتقصير أو الأخطاء في المنطقة قد تعكس ميلاً لدى الإدارة الحالية لإلقاء اللوم على الآخرين، كما يقول مراقبون. لكنّها من جهة ثانية تعبّر عن تحذير بأنّ عرقلة خطوته أو مهاجمتها بلا هوادة قد تنتج مفاعيل عكسية لا يرغب بها التقدميون، من بينها موجة حمراء محتملة في انتخابات الخريف. وهذا يفسّر ولو جزئياً سبب حضور "ظلّ ترامب" في أكثر من مقطع.
لا "هدايا" بالمطلق
في النقطة الأكثر ارتباطاً بالرياض والأكثر أهمية بالنسبة إلى التقدميين، أعلن بايدن في مقاله "أننا قلبنا سياسة الشيك على بياض التي ورثناها". وأشار إلى قيام إدارته بنشر تقرير المجتمع الاستخباري عن قتل الصحافي جمال خاشقجي وفرض عقوبات جديدة على المتورطين وإصدار 76 حظر تأشيرة بموجب قانون جديد أي شخص يضايق المعارضين في الخارج من دخول الولايات المتحدة.
مجدداً، أثار بايدن نقطة أخرى تبيّن حجم تعارض سياسته مع سياسة سلفه حتى ولو كانت هنالك بعض المبالغات. فإدارته لم ترث "سياسة شيك على بياض" من ترامب بما أنّ الإدارة السابقة بدأت تخفّف دعمها للسعودية في اليمن بعد قتل خاشقجي، كما فرضت عقوبات على عشرات السعوديين الذين قالت إنهم متورطون في عملية القتل. لكنّها بالمقابل رفضت عزل السعودية باعتبارها "دعامة للاستقرار" كما قال وزير الخارجية السابق مايك بومبيو.
وأوضح بايدن أنه يدرك وجود العديد من المعارضين لزيارته مشدداً على أنّ نظرته إلى حقوق الإنسان واضحة وطويلة الأمد وأنّ "الحريات الأساسية هي دائماً على جدول الأعمال حين أسافر إلى الخارج..."
وفي ما يبدو أنّه طمأنة غير مباشرة لليسار الأميركي، لفت بايدن النظر ضمناً إلى أنّه لا يقوم بـ"إهداء" السعودية مكسباً مجانياً من خلال هذه الزيارة، وإنّما تعاون معها بعدما أظهرت سلسلة من الخطوات الإيجابية: الرياض "ساعدت في استعادة الوحدة بين الدول الست في مجلس التعاون الخليجي، دعمت بشكل كامل الهدنة في اليمن وهي تعمل الآن مع خبرائي للمساعدة في زرع الاستقرار في الأسواق النفطية مع منتجين آخرين في أوبك". ثمّ أوضح أنّ "هدفي كان إعادة توجيه – لا قطع – العلاقات مع دولة كانت شريكة استراتيجية طوال 80 عاماً".
عودة إلى الأساس... الناخب
إذا كانت مقدّمة المقال مخصّصة إلى الجمهور الأميركي العريض وصلبه موجّهاً أكثر إلى الجناح المتشدّد في حزبه، فقد عاود بايدن التوجّه إلى الشعب الأميركي في الخاتمة: "خلال رحلتي، سأتذكر ملايين الأميركيين الذين خدموا في المنطقة، من بينهم ابني بو والـ7054 الذين قضوا في النزاعات في الشرق الأوسط وأفغانستان منذ 11 أيلول 2001."
"الأسبوع المقبل، سأكون أول رئيس يزور الشرق الأوسط منذ 11/9 من دون قوات أميركية منخرطة في القتال. هدفي هو إبقاء ذلك على هذا النحو".
يذكّر بايدن الأميركيين بأنّه حقّق مطلباً شعبياً بإنهاء "الحروب التي لا تنتهي" بعدما انسحب من أفغانستان وأنهى المهمة القتالية لقواته في العراق، ولو أنّ مسار الخطوتين بدأ يرتسم في الإدارة السابقة. في نهاية المطاف، كان بايدن يقول للأميركيين إنّه الرئيس الذي يفي بوعده في اتباع سياسة خارجية تخدم مصالح الطبقة الوسطى، عبر تجنّب الحروب وتقييم كل خطوة في السياسة الخارجية بالاستناد إلى تأثيرها على مصالح الأميركيين العاديين.
في نهاية المطاف، عاد بايدن إلى الواقعية السياسية مع السعودية: "علينا مواجهة الاعتداء الروسي، وضع أنفسنا في أفضل موقع ممكن للتغلب على الصين، والعمل لاستقرار أعظم في منطقة مؤثرة من العالم. لفعل هذه الأمور، علينا أن نتواصل مباشرة مع دول قادرة على التأثير في هذه النتائج. المملكة العربية السعودية واحدة منها..."
هذه العودة كانت متوقعة. ومن قبل السعوديين أنفسهم.