"روسيا دولة فريدة من نوعها. إنّها فوضويّة ومنهجيّة في الوقت نفسه. إنّها مَلَكيّة وأناركيّة. إنّها دولة توجّهها السوق واجتماعيّة. إنّها مؤدلجة وساكنة سياسيّاً. إنها انعزاليّة ومفتوحة. إنها متحرّكة تصاعديّاً وقديمة. إنها شاعريّة رومنسيّة وبراغماتيّة بلا حدود".
إذا كانت هذه الصفات التي عرّف بها الأكاديمي في "المجلس الروسيّ للعلاقات الخارجيّة" جورجي أساتريان الدولة الروسيّة صفات صحيحة، فلا عجب حينها في أنّ الغرب "لا يفهمها" بحسب اتّهامات كثر، أكانوا غربيّين أم روساً.
قيل الكثير عن عدم قدرة الأميركيين والأوروبيين على سبر أغوار سياسة الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين الداخليّة والخارجيّة. ربّما يعزى ذلك إلى عدم تمكّن هؤلاء من استيعاب روسيا ودمجها تدريجيّاً في المؤسسات الغربيّة بعد نهاية الحرب الباردة. والفشل في دفع النظام السياسيّ الروسيّ إلى تبنّي القيم الليبيراليّة، على الأقل من حيث التفسير الغربيّ لها، هو سبب مرجّح آخر للحديث عن الإخفاق في فهم روسيا. لكن من زاوية المصلحة الغربيّة المباشرة، كان الفشل واضحاً في عدم تأمين الحماية لبعض دول أوروبّا الشرقيّة من روسيا "انتقاميّة" لم تستطع تخطّي واقعة انهيار الاتحاد السوفياتيّ، "أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين"، وفقاً لتوصيف بوتين.
بين العقل والقلب
لا يعني تفكّك الاتّحاد السوفياتيّ أنّ سياسة الكرملين الحاليّة هادفة إلى إعادة إحيائه. في الواقع، أعلن بوتين في بداية الألفيّة أنّه وخلال تلك الحقبة شعر لفترة أنّ انهيار القوّة السوفياتيّة في أوروبا كان حتميّاً. "لكنّني أردت أن يرتفع مكانه شيء مختلف. ولم يتمّ اقتراح أي شيء مختلف. هذا ما يؤلم. لقد أسقطوا كل شيء وذهبوا".
حين أعربت مساعدة وزير الخارجية للشؤون لسياسية فيكتوريا نولاند عن "قلق" من مشروع إرثيّ للرئيس الروسيّ في السعي إلى إعادة تأسيس الاتحاد السوفياتيّ، ردّ الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف قائلاً إنّ نولاند تفهم أنّ الأمر "مستحيل". يطابق ذلك ما تحدّث عنه بوتين منذ نحو أربعة أعوام.
قبل انتخابات 2018، وردّاً على أسئلة صحافيين عمّا سيرغب بتغييره لو تمكّن من ذلك، قال بوتين "انهيار الاتّحاد السوفياتيّ". لكنّه ذكر ردّاً على سؤال آخر أنّه سيظلّ يفضّل العيش في الوقت الحاضر لو استطاع اختيار أيّ حقبة زمنيّة يريد معاصرتها. يتجانس ذلك مع قول آخر للرئيس الروسيّ: "كلّ من لا يأسف على رحيل الاتحاد السوفياتيّ هو بلا قلب. كلّ من يرغب باستعادته هو بلا عقل".
مشروع آخر... مشابه
عدم رغبة أو نيّة بوتين باستنهاض الاتحاد السوفياتيّ لا يترادف تبقائيّاً مع انتفاء أيّ طموح ذات بعد توسّعيّ أو إمبراطوريّ ولو بشكل مغاير. المسؤولون الروس لم يخفوا ذلك في فترات سابقة. سنة 2014، قدِم مسؤول روسيّ بارز إلى معهد "تشاتام هاوس" الملكيّ في لندن ليقول: "بوتين ليس سخيفاً كي يظنّ أنّ بإمكانه إعادة تأسيس الاتّحاد السوفياتيّ، لكن هنالك نواة من الاتّحاد السوفياتيّ السابق الذي يعدّ خاصّتنا – بيلاروسيا وأوكرانيا وشمال قازاقستان. وسيكون من الجميل استعادته".
هذا ما يسرده الباحث الزائر في "مركز الدراسات الأوروبية" والديبلوماسيّ الأوستراليّ السابق في روسيا والصين وبولونيا كايل ويلسون. وويلسون من الذين يقولون إنّ الغرب يسيء فهم روسيا على ما ينقله عنه "المعهد الأوسترالي للسياسة الاستراتيجية". فمجتمع السياسة الخارجية في الغرب يظنّ أنّ لروسيا مفاهيم مشابهة لما يعنيه أن تكون قوة عالمية. لجهة المسار الاقتصاديّ، لم يكن بوتين مهتماً ببناء الاستقرار والازدهار كما يفهمها الغرب، إلّا بشكل هامشيّ. لقد تمحور مشروعه الكامل حول روسيا قادرة على أن تكون إكراهيّة وتوسّعيّة مع تمركز القوة بيد رجل واحد.
والترجمة الروسيّة لـ"قوة عظيمة" بحسب ويلسون هي velikaya derzhava حيث يعني القسم الثاني من العبارة الاستيلاء أو التمسك. وبالاستناد إلى بحث تاريخيّ، لفت إلى أن روسيا توسّعت بوتيرة 100 إلى 150 كيلومتراً مربعاً في اليوم خلال السنوات الـ450 الأخيرة.
إعادة صياغة كتب التاريخ
لكن خلال القرن العشرين توقّفت روسيا عن التوسّع باستثناء فترة قصيرة قبل وبعد الحرب العالمية الثانية حين ضمّ ستالين دول البلطيق وأجزاء من فنلندا وبولونيا إلى الاتّحاد السوفياتيّ. ومع انهيار الأخيرة، عادت روسيا إلى التقهقر من حيث المساحة والقوّة. بذلك، كان عليها أن تستعيد "نشاطها الطبيعيّ" في التوسّع. بحسب أساتريان، كتب المساعد الشخصيّ لبوتين (ربّما بات مساعداً سابقاً مع إشاعة عن وضعه قيد الإقامة الجبرية) فلاديسلاف سوركوف: "بعدما انهارت من مستوى الاتّحاد السوفياتيّ إلى مستوى الاتّحاد الروسيّ، توقّفت روسيا عن التفكّك وبدأت بالتعافي. أخيراً، عادت إلى موقعها الطبيعيّ و(الموقع) الوحيد الممكن لمجتمع أمم عظيم، متوسّع وجامع للأراضي".
تحمل هذه النظرة شيئاً من واقع قاتم إمّا لروسيا أو لجيرانها: كأنّ ثمّة خياراً وحيداً بين روسيا ضعيفة وهشّة استراتيجياً أو روسيا قويّة تتجلّى قوّتها في التوسّع والسيطرة على المزيد من أراضي الدول المجاورة. ويبدو أنّه تمّ التمهيد لهذا التوسّع منذ فترة طويلة.
في 2005، وبحسب ويلسون من "مركز الدراسات الأوروبية"، أسّس بوتين لجنة لإعادة صياغة كتب التاريخ المدرسية. في كتاب مخصّص لأساتذة التاريخ برز مقطع يقول إن غالبيّة الطبقة السياسيّة الروسيّة الواعية ترفض الحدود الحاليّة للاتحاد الروسيّ. هي غير مناسبة لأمن روسيا. بعدها في 2008، اجتاح بوتين جورجيا وسيطر على بعض أراضيها. ويضيف الأكاديميّ أن الروس يواصلون نقل أسلاكهم الشائكة إلى داخل الأراضي الجورجيّة بطريقة متدرّجة.
ما قاله بوتين لبولتون
لا يمكن الحديث عن عدم فهم الغرب تطلّعات روسيا، على افتراض صحّته، من دون الإشارة إلى أنّ سوء الفهم هذا متبادل. إذا كان الأميركيّون غير مدركين لوجود روابط تاريخيّة بين الروس والبيلاروس والأوكرانيين بحسب سرديّة موسكو فروسيا أيضاً غير مدركة لفكرة أنّ دمج هذه الشعوب قسراً وتغيير الحدود الدوليّة بالطريقة الحاصلة في أوكرانيا تناقض مبدأ احترام حدود الدول ووحدة أراضيها.
سيظلّ هذان المنطقان في حالة تصادمية على المديين القريب والمتوسّط. من شبه المؤكّد وجود استحالة في جعلهما قابلين للتعايش. على أيّ حال، هذا ما قاله بوتين للمستشار السابق لشؤون الأمن القوميّ جون بولتون: "لديكم منطقكم، لدينا منطقنا؛ سنرى أيّ منطق سيفوز".