بعيداً عن التهديدات التي واظبت إسرائيل على إطلاقها تجاه إيران، تارةً بالمواجهة العسكرية وطوراً بقصف المفاعلات النووية وغيرها، فإن شبح الحرب بدا كأنّه يُهدّد الدولة العبرية من الداخل، وذلك في ظل العواصف السياسية التي تعيشها منذ أكثر من ثلاث سنوات، والانقسام العمودي الحاد بين الإسرائيليين أنفسهم، والذي دفعهم إلى تبديل 5 حكومات، وإقصاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن السلطة ومن ثم إعادته إليها.
وتستمر حالة التخبّط التي تعيشها إسرائيل بعد تأليف الحكومة الأخيرة برئاسة نتنياهو، وفي هذا الإطار، تواجه البلاد حركات احتجاجية واسعة تعمّ المناطق، وخاصّة العاصمة، إذ تظاهر أكثر من 80 ألف إسرائيلي في تل أبيب احتجاجاً على خطط الحكومة الجديدة للقيام بإصلاحات قضائية، ومن شأنها أن تسهّل على البرلمان إلغاء أحكام تصدرها المحكمة العليا.
(تظاهرات في إسرائيل بوجه حكومة نتنياهو - أ ف ب)
لم تواجه إسرائيل سيناريو الحرب الأهلية في تاريخها منذ قيامها قبل 75 عاماً، عكس الدول المحيطة بها التي مزّقتها المواجهات، ولم تواجه انقساماً سياسياً حاداً كالذي تعانيه اليوم بين المتشدّدين والأقل تطرّفاً، ما يُشير إلى أن مستقبل هذا الكيان بخطر، خصوصاً أن لا معالجات جذرية للتخفيف من وطأة ما يحصل، بل إن التأزّم السياسي الداخلي سيّد الموقف.
تعجز الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة عن إيجاد الانسجام بين مكوّناتها، وتغيب الرؤى الموحّدة، في ظل تعدّد الائتلافات السياسية وكثرتها. ورغم أن الحالة الديموقراطية عموماً تشجّع اختلاف الآراء، إلّا أن كثرة التنظيمات السياسية تغذّي التشتت، وفق المراقبين.
في هذا السياق، ثمّة ترقّب لنهاية العقد الثامن من عمر إسرائيل، وهو يتزامن مع الفترة المصيرية والحسّاسة التي تمر بها البلاد، فأي أثر لتصدّعات الدولة العبرية الداخلية في ثمانينها؟
(متظاهرون إسرائيليون بوجه الشرطة - أ ف ب)
تحذيرات سياسية "خطيرة"
في هذا السياق، لا بدّ من التذكير بكلام قاله مسؤولون إسرائيليون سياسيون وأمنيون في الأشهر الأخيرة، ويحذّر من الشرخ الحاصل داخل المنظومة السياسية خاصةً، وما يُمكن أن تكون نتائجه.
- رئيس الوزراء الحالي، بنيامين نتنياهو، سبق الجميع بقوله في عام 2017: "سأجتهد كي تبلغ إسرائيل عيد ميلادها المئة، لأن مسألة وجودنا ليست مفهومة ضمناً، وليست بديهية، فالتاريخ يعلّمنا أنه لم تُعمَّر دولة للشعب اليهودي أكثر من 80 سنة".
- رئيس الوزراء السابق، نفتالي بينيت، قال إن "اللحظة مصيرية، فقد تفكّكت إسرائيل مرتين في السابق بسبب الصراعات الداخلية، الأولى عندما كان عمرها 77 عاماً، والثانية 80 عاماً، ونعيش الآن حقبتنا الثالثة، ومع اقترابها من العقد الثامن، تصل إسرائيل الى واحدة من أصعب لحظات الانحطاط التي عرفتها على الإطلاق".
- رئيس الوزراء الأسبق، إيهود باراك، عبّر في مقال صحافي عن مخاوفه من "قرب زوال إسرائيل قبل حلول الذكرى الـ80 لتأسيسها"، مستشهداً في ذلك بالتاريخ اليهودي، لافتاً إلى أن "تجربة الدولة العبرية الصهيونية الحالية هي الثالثة، على وشك دخول عقدها التاسع"، مبدياً خشيته من أن "تنزل بها لعنة كما نزلت بسابقتها".
عودةً إلى التاريخ، فإن الصهيونية تعاني من "لعنة العقد الثامن"، إذ لم تعمّر إسرائيل لأكثر من ثمانين عاماً باستثناء مرّتين، الأولى كانت مملكة داوود وسليمان التي حكمت الجزء الجنوبي الغربي من ولاية الشام، والثانية هي مملكة الحشمونائيم التي حكمت أرض كنعان، وفي المرّتين اللتين اجتازت فيهما حافة الثمانين عاماً، بدأ التفكّك والاهتراء يصيبها بسبب الاقتتال الداخلي بين القبال الإسرائيلية، السبب الرئيسي الذي أدّى إلى انهيار المملكتين، ما يُشير إلى أن انهيار الكيانات الصهيونية سبب داخلي، وليس خارجياً.
حرب أهلية داخل إسرائيل؟
انطلاقاً مما ذُكر، ومع ضرورة الإشارة إلى الاحتجاجات التي تعمّ المدن الإسرائيلية ضد حكومة نتنياهو، لا بد من التطرّق إلى مقال رأي للكاتب ياكوف كاتز في صحيفة "جيروزالم بوست"، رأى فيه أن ثمّة خطراً حقيقياً يهدّد إسرائيل، قد يدفع البلاد إلى حرب أهلية.
وذكّر بتحذيرات وزير دفاع سابق من احتمالية اندلاع هذه الحرب، وبتهديدات نائب رئيس أركان سابق للجيش الإسرائيلي بعصيان مدني جماعي، وأوامر وزير الأمن القومي للشرطة باستخدام القوة لوقف التظاهرات، ومطالبات باعتقال زعماء المعارضة، ولفت الكاتب إلى أن كل هذا قد يدفع باتجاه انفجار الوضع الداخلي في إسرائيل.
(تظاهرات ضد الحكومة الإسرائيلية - أ ف ب)
وفي سياق المقال نفسه، فإن الاعتقاد أن استقراراً من المرتقب أن يسود في إسرائيل بعد إجراء الانتخابات وتشكيل الحكومة، ليس في مكانه، لأن المعارضة ما زالت موجودة، وظروف الانقسام لا تختفي بين ليلة وضحاها، بل إن ما يحصل يشير إلى توتر طويل المدى منتظر، خصوصاً بعد مضيّ فترة على تشكيل الحكومة، وبدء ظهور التباينات بين الائتلافات نفسها.
ويتخوّف كاتب المقال من الوصول إلى لحظة الحرب، خصوصاً أن السلاح موجود لدى الإسرائيليين، إلّا أن التجارب تُفيد أن الحروب الأهلية في معظم الأحيان تستدعي انقساماً داخل صفوف الجيش، صاحب الكلمة الأمنية الأولى والأخيرة، وهنا، ستتجه الأنظار نحو المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ومدى تماسكها.
ومع العلم بأن الكاتب يستبعد قدرة المعارضة على التحرّك المؤثّر والمؤذي للحكومة الإسرائيلية، فإنّه يلفت إلى قدرة هذا الفريق على الاستمرار في التحرّك وإعلاء الصوت داخلياً وخارجياً، لعلّ الضجيج الذي يصدره يجعل الأميركيين والأوروبيين يصعّدون، فيكون لذلك تداعيات على العلاقات الديبلوماسية بين حكومة نتنياهو ودول الخارج، وهنا يُداهم الخطر رئيس الوزراء الإسرائيلي، نسبةً لخطورة فقدان الدعم الخارجي.
العلاقة مع واشنطن
لكن برأي الكاتب، فإن هذا ليس بالأمر السهل بالنسبة إلى واشنطن، لأن من المستبعد أن تنتقد الولايات المتحدة حليفاً وثيقاً مثل إسرائيل بشأن التحركات السياسية الداخلية، وكان التعليق الذي صدر عن وزارة خارجيتها قبل أيام، وتشديد الأخيرة على "القيم الديموقراطية" المشتركة بين البلدين، كما على أهمية المؤسسات المستقلة في إسرائيل في دعم "الديموقراطية المزدهرة" في البلاد، إشارة إلى أن واشنطن ليست في صدد التصعيد واختلاق أزمة مع نتنياهو.
وينطلق الموقف الأميركي من أن إدارة جو بايدن في غنى عن صداع جديد، في ظل الحروب التي تخوضها الولايات المتحدة وإن بشكل غير مباشر، مع روسيا وإيران والصين، إضافة إلى أزماتها الداخلية التي تهدّد ديموقراطيتها، فموقعها لا يخوّلها "إلقاء محاضرات" عن الديموقراطيات الأخرى، في وقت عجزت فيه عن انتخاب رئيس لمجلس النواب على مدار خمس جولات.
كاتز يُحذّر من أن هذا الواقع ليس جامداً، بل إن تبدّلاً ما قد يحصل إذا تصاعدت حدّة التوتر في الشارع الإسرائيلي، ولجأت الشرطة إلى الخشونة والقمع، فعندها ستتحوّل الأزمة إلى قضية رأي عام دولي، ولن تتمكن واشنطن والعواصم الأوروبية من غض البصر عما يحصل ويهدّد "الديموقراطية" في إسرائيل.
(بايدن ونتنياهو)
أزمة حكم في إسرائيل
ويُذكّر المقال بسؤال بسيط لكنه جوهري، طرحه عضو الكنيست، اليميني المتطرّف، إيتمار بن غفير (وهو وزير الأمن القومي في حكومة نتنياهو)، أثناء الحملات التي سبقت الانتخابات، "من يحكم؟". وقد لخص هذا الشعار بإيجاز الشعور العميق لدى العديد من الإسرائيليين، بأن الدولة فقدت السيطرة على أجزاء من البلاد، وخاصة المناطق العربية، وكان بن غفير الشخص الوحيد الذي يتحدث عن ذلك.
الى ذلك، تبدو المعارضة مشتّتة، ومن دون رؤية، وهي كانت في الحكم قبل أشهر، ورغم تحريضها على الاحتجاج ضد حكومة نتنياهو، فإنها لا تصنع بديلاً للإسرائيليين، ولا تخبرهم بما هو في صالحهم، بل كل ما تقوم به هو التحريض على ما يجب معارضته، حسب مقال "جيروزالم بوست".
خطر داخلي وآخر خارجي
المخاطر التي تحيط بإسرائيل كثيرة، منها ما هو داخلي، ومنها ما هو خارجي، وتكاملها مع بعضها قد يكون مؤشّراً لخطر جدّي.
الأزمات الداخلية تتعلق بغياب الانسجام بين المكوّنات السياسية، وأدائها الحكومي "السيّئ والفاسد"، إلى جانب الانقسام الشعبي. وضع المسؤولون الإسرائيليون مصالحهم الفئوية قبل مصالح إسرائيل، فكان الهدف البقاء في السلطة وعقد صفقات فساد، وهذا يتجلّى في حالة نتنياهو الملاحق بقضايا فساد. هو لسان حال الخطاب السائد لدى فئة كبيرة ناقمة على السلطة.
(أحد الورزاء المتطرّفين إيتمار بن غفير)
وهنا، يذهب بعض المحللين السياسيين الى المقارنة بين المنظومة الحديثة المؤلفة من بنيامين نتنياهو، إيهود باراك، إيهود أولمرت، أفيغدور ليبرمان، الذين انتشر في عهودهم الفساد، ومؤسسي الدولة اليهودية، دافيد بن غوريون، موشيه ديان، غولدا مائير وإسحاق رابين الذين "وضعوا مصالح الدولة أولوية متقدّمة".
على الصعيد الخارجي، فإن المخاطر تكثر في ظل التوتر بين إسرائيل وإيران من جهة، وإسرائيل والتنظيمات المسلّحة التي تنضوي تحت لواء محور إيران، وإسرائيل والفلسطينيين، والتفكّك الداخلي قد يشجّع خصوم تل أبيب على استثمار الواقع السياسي والتحرّك بالتوازي.
فشل الخارج في توجيه ضربة قاضية إلى إسرائيل رغم الحروب الكثيرة، فهل يكون الانقسام الداخلي الرصاصة الحاسمة، أم أن إرادة الخارج ومصلحته باستمرار هذا الكيان ستكون أقوى، أم أن إشهار حال الخطر الحقيقي سيشدّ العصب في الكيان؟