النهار

أوكرانيا على أبواب العرب
عنصر من القوات الأوكرانية (أ ف ب).
A+   A-
سألتني عجوز عن حال أوكرانيا، فاستغربت. لم أعرف عن جارتنا التسعينية يوماً اهتمامها بالشأن السياسي. سألتها: ماذا تعرفين عن تلك البلاد؟ أجابت بأنها لا تعرف عنها إلا أنها بلد تحاربه روسيا، وأن "البزارين والحريم يموتون بالشوارع ويبكون بالتلفزيون". ثم عادت لتسألني عما إذا كان "راعي روسيا بيولعها نار وشرار ويحذف الخواجات بالذري وراعي أمريكا بيحذفه بالصاروخ، ويجينا منها نصيب؟!".


لم يهتم العرب، كباراً وصغاراً، نساءً ورجالاً، متابعين للشأن السياسي وغير متابعين، بقضية دولية بعد الحرب الباردة، كما اهتموا بالصراع الدولي حول غزو الروس لأوكرانيا، حتى طغى الاهتمام على المتابعات الكروية. ترى ما هو السبب؟ هل هو الخوف من انفراط العقد ودخول العالم في حرب عالمية ثالثة لا تبقي ولا تذر؟ أم لدرامية المواجهة الأزلية بين الخير والشر، القوي والضعيف، والعواذل بينهما؟ أم أنها وسائل التواصل الاجتماعي التي اقتحمت فضاء الناس على اختلاف مشاربهم واهتماماتهم فسهّلت وصول المعلومة إليهم وفرضت أجندتها عليهم؟

ثم هناك انقسام العرب بين المعسكرين، وكأنها الحرب الباردة من جديد، أو الحرب العالمية الثانية. فمن مؤيد للمعسكر الغربي الذي تنتمي إليه الثقافة العالمية ونتلقى منه معظم احتياجاتنا اليومية من السيارة الى الصاروخ، ومن الكتاب الى الأفلام، ومن الأفكار الى الدولار، يقابله المؤيد للمعسكر الشرقي لأسباب عقائدية أو سياسية، أو على مبدأ (ليس حباً في معاوية ولكن كرهاً في علي). ورغم أننا في كل الأحوال متفرجون تغلب على طبعنا الحماسة والتطرف، وملكيون أكثر من الملك، رغم أننا كما في المسابقات الكروية العالمية، لا لنا ناقة في ليفربول ولا جمل في برشلونة، لا روبل في موسكو ولا هرفينا في كييف.

دروس التّاريخ
لست مع هذا ولا ذاك، فكلهم خصوم (ولا تصلي على أحد منهم). ولو استعرض "المستشرق" منا جرائم الغرب من استعمار قديم وجديد، وغزو واحتلال وتآمر، ودعم لأعدائنا، إيران وإسرائيل، لرد عليه "المستغرب" بجرائم الحرب الروسية في سوريا والشيشان وقبلها أفغانستان، واضطهاد الصين لملايين الأيغور المسلمين، ودعم البلدين - أيضاً - لإيران وإسرائيل. والحقيقة أن أمتنا كلها أصبحت منذ قرون كالأيتام على مائدة اللئام. يسهل تنويمها مغناطيسياً وتحريكها عاطفياً، وتقسيمها عنصرياً وتفريقها طائفياً.

فكما فعل نابوليون عندما نشر شائعة إسلامه، وتقرب من علماء الأزهر فكسب قلوب المؤمنين، خدعنا سلاطين بني عثمان بدعوى إحياء الخلافة الإسلامية، والخميني وخامنئي وأردوغان باسم الدفاع عن الإسلام، وتحرير القدس، وعودة الخلافة. وبالطريقة باعنا الشريف حسين وعبد الناصر وصدام والأسد الأب شعارات القومية والوحدة العربية. وكما حالفنا هتلر وبريجنيف بوهم دعم القضايا العربية، جنّدنا أيزنهاور وريغان بدعوى محاربة الإلحاد والدفاع عن الإسلام والمسلمين. "تعددت الأسباب والموت واحد"!

بيادقنا في لعبة الأمم
وها نحن اليوم أمام المسرحية نفسها، نواجه الاستقطاب نفسه، وتلعب أطراف الصراع على الأوتار نفسها. نتجاهل حقيقتهم، وننسى تاريخنا معهم، وننساق مع أكاذيبهم وشعاراتهم، ونتحمس لمعسكر ضد آخر. وغداً سينتصر هذا الطرف أو ذاك، ينسحب هذا الفريق أو ذاك، أو تنتهي المباراة بالتعادل ويتعانق المتنافسون. ثم يتفقون مرة أخرى ... علينا.

درس آخر من دروس التاريخ لن نتعلم منه، وسرعان ما نتجاوزه وننساه. وفصل مكرر من كتاب "الخدع السحرية" ينطلي علينا فنصفق ونتقافز ونتجادل وننحاز، ثم نكتشف أننا مجرد بيادق في لعبة الأمم، وعلف لمدافعهم، وذخيرة لبنادقهم. نكبر مع هذا ونقاتل مع ذاك، فيدفعون بنا الى الصفوف الأمامية سوراً لصفوفهم الخلفية، فإن خسروا خسرنا، وإن ربحوا جحدونا. هذا إذا لم ينقلبوا علينا ويصنّفونا في قوائم "الإرهاب".

تدوير المجاهدين
لن أعود الى الماضي البعيد لأقدم الأمثلة وأذكّر بمصير العرب الذين استخدمهم الفرس والروم، أو بأولئك الأعراب الذين قاتلوا مع بني عثمان، وتطوّعوا مع النازية وحاربوا مع الحلفاء، ولكني سأذكّر فحسب بالمجاهدين العرب الذين قاتلوا الشيوعية في أفغانستان، والصرب في البوسنة، والروس في الشيشان، وكيف كانواأبطالاً يستقبلهم الرؤساء في البيت الأبيض والأليزيه وداوننغ ستريت، وتقدم لهم الدعم والتأييد استخبارات الغرب وإعلامه وأفلامه، ثم تحولوا الى إرهابيين، مطاردين، محاربين من الجميع. وكيف أعادوا اليوم تصنيفهم مجندين، متطوعين، مقاومين في معسكر الغرب والشرق، مع روسيا أو أوكرانيا.

فهذا الشيشاني الذي طبقت موسكو قبل عشرين عاماً سياسة الأرض المحروقة على جمهوريته لسعيها الى الاستقلال، وسمّته إرهابياً عقوبته الإعدام، يصلي ويكبر الآن وهو يشارك بحماسة في حرق جمهورية استقلت وقتل شعب يدافع عن استقلاله. وهذا القاعدي والداعشي والجهادي الذي قصفه الغرب في أفغانستان وسوريا والعراق ولا يزال، يدعى لمواصلة الجهاد ضد روسيا دفاعاً عن أوكرانيا. وسنرى غداً، بعد أن تصمت المدافع، وتخفى الجثث في المدافن الجماعية، كيف سيصنفون الناجين منهم، وأين سيحاكمونهم، والى أين سينتهون فوق الأرض أو تحتها.

الحياد الإيجابي
قلت لجارتي العجوز: لا شأن لنا بهم، يا أماه، فـ"الكفر ملة واحدة". وما يجري بين المتخاصمين "فخار يكسر بعضه". واطمئني، فولاة أمرنا أدرى وأحكم وأرشد. اختاروا الحياد الإيجابي كما فعلوا في الحروب العالمية السابقة، وحافظوا على مسافة واحدة من المتحاربين. ندعو الى السلام، ندعو الى الحوار، ونعرض الوساطة.

نلتزم تعهداتنا واتفاقياتنا وشراكاتنا مع الجميع، ولا ننحاز سراً أو علانية. ونطالب أطراف الصراع باحترام موقفنا وتقدير مصالحنا و"اللعب بعيد عنا". أما النووي، فلا تخشي منه شيئاً، فالمركب الذي يحمل الجميع لن يغرقه ركابه. فكل يعشق الحياة والسلطة والمال، ولن يفرّط عاقل بروحه وكل ما ما يملك في حرب المنتصر فيها قتيل.

هزت رأسها وهي تردّد: افلح ان عقِل. يا لها من حكيمة!
 
 
 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium