استعادت أوكرانيا أكثر من 6 آلاف كيلومتر مربع من أراضيها خلال الهجوم الأخير على منطقة خاركيف (شرق) وفقاً للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. كسرت القوات الأوكرانية الجمود على خطوط التماس بشكل مفاجئ لكنّ ذلك لم يحصل عن طريق الصدفة. بحسب نائب المساعد السابق لوزير الخارجية الأميركي جويل روبين، استمرت الاستعدادات للمعركة قرابة شهرين. ويبدو أنّ ذلك يتطابق مع بدء وصول الأسلحة الغربية النوعية إلى أوكرانيا.
أثمر التخطيط المتأنّي عن مناورة عالية الفاعلية أدّت إلى مفاجأة القوات الروسية. تحدّثت أوكرانيا كثيراً في الإعلام عن نيّتها استرجاع منطقة خيرسون في الجنوب. راقب الروس الإعلام الأوكراني وبدأوا يستعدّون للدفاع عنها. لهذه الغاية، أعادت موسكو نشر وحدات النخبة من الشرق وفقاً لتقارير. بدأت المعركة في خيرسون يوم 29 آب. سارعت روسيا للإعلان عن أنّها أحبطت الهجوم. لكن في الوقت نفسه تقريباً، (بين 4 و 5 ايلول) بدأ القصف على بالاكليا، ثمّ انطلق الهجوم في الساعات التالية. بعدها، تقدّمت أوكرانيا في المدن الأساسية (إيزيوم وكوبيانسك) وانهارت معها البلدات المجاورة. تحدّث بعض الروس عن أنّ القوات المهاجمة تفوّقت عددياً عليهم بنسبة ثمانية إلى واحد. تكفّل ذلك بتحقيق سيطرة سريعة على المنطقة من دون تكبّد أوكرانيا خسائر كبيرة في الأرواح.
مع ذلك، كانت أوكرانيا ولا تزال جادّة في استعادة خيرسون. قال الجيش الأوكراني الاثنين إنّه سيطر على مساحة 500 كيلومتر مربع فيها. تمثّل المنطقة هدفاً استراتيجياً بالنسبة إلى كييف لإبقاء اقتصادها متصلاً بالاقتصاد العالمي. ربّما ساهم ذلك في ترسيخ القناعة لدى الروس بأنّ المعركة الحقيقية هي في الجنوب. لكنّ ذلك دفع البعض إلى اعتبار أنّ روسيا واجهت إخفاقاً استخبارياً كبيراً قبل الإخفاق العسكري. قد يكلّفها ذلك خسارة أكثر من منطقة واحدة وحسب.
أهداف جذّابة لاستكمال الهجوم
في حوار على موقع "وور أون ذا روكس"، توقّع محلّل الشؤون العسكرية في "مركز التحليلات البحرية" مايكل كوفمان أن يكون الجيش الروسي عرضة للعطب "على الأقل للأشهر الستة المقبلة تقريباً". قد يحفّز ذلك الأوكرانيين على مواصلة الهجوم. وثمّة تحليلات أخرى تعطي كييف المزيد من التفاؤل بشأن عملياتها المستقبلية المحتملة.
ترى مجلة "إيكونوميست" أنّ استعادة مركزين لوجستيين مهمّين مثل إيزيوم وكوبيانسك "أنهت فعلياً خطط روسيا الكبيرة للسيطرة على كامل دونباس" وفتحت آفاقاً جديدة أمام أوكرانيا كي تستعيد بلدات مثل سيفيرودونيتسك التي سيطرت عليها روسيا بعد معركة دامية دامت أشهراً.
في 28 أيار، أي بعد ساعات على إطلاق روسيا معركتها للسيطرة على المدينة، توقّع "معهد دراسات الحرب" أن تكون قدرة روسيا على شنّ هجمات عملانية واستراتيجية قد وصلت إلى ذروتها مع هذه المعركة ممّا يمنح أوكرانيا فرصة إطلاق هجمات مضادة. وقال المعهد في تحليلاته إنّ روسيا كانت تبذل جهوداً هائلة للسيطرة على سيفيرودونيتسك تفوق أيّ قيمة استراتيجيّة محتملة تقدّمها المدينة للجيش الروسيّ. سقطت المدينة في 24 حزيران بيد الروس. بالفعل، بعد معركة سيفيرودونيتسك (ومعها ليسيتشانسك)، تباطأت وتيرة الهجمات الروسية في الشرق ودخلت مرحلة جمود طويلة نسبياً.
غضب أوكراني... ما سببه؟
من البديهي أن تكون المعنويات الأوكرانية مرتفعة على عكس معنويات الروس. لكنّها لن تكون العامل الوحيد في تحديد مجريات الميدان. فمواصلة الضغط الأوكراني باتجاه قد تعرّض القوات الأوكرانية لخطر التمدد الزائد. بمعنى آخر، سيواجه الجيش الأوكراني مشاكل في الحفاظ على إمداداته. وتحتاج أوكرانيا إلى المزيد من الدبابات لاستكمال توجّهها صوب لوغانسك ودونيتسك. يبدو أنّ برلين على الأقل متردّدة في نقلها إلى كييف. وغرّد وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا منتقداً ألمانيا على قرارها فكتب يوم أمس أنّ هنالك "إشارات مخيّبة للآمال من ألمانيا بينما تحتاج أوكرانيا (إلى دبابات ومدرعات) ‘ليوبارد‘ و‘ماردرز‘ الآن – لتحرير الناس وإنقاذهم من الإبادة الجماعية. لا توجد حجة عقلانية واحدة عن سبب عدم توفير هذه الأسلحة، فقط أعذار ومخاوف مجردة".
منذ أيام، أوضح باحثون في "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية" أنّ كييف طالبت في آذار بالحصول على 88 دبابة "ليوبارد-1" ومئة "ماردر". مشكلة "ليوبارد-1" بحسب الباحثين هي أنّه لم يعد هنالك إنتاج كبير لقطع الغيار التابعة لها. ونصحوا بتحويل الدول الأوروبية التي تستخدم "ليوبارد-2"، وعددها 13 دولة، تلك الآليات إلى أوكرانيا بطريقة تضمن تقاسم الأعباء بشكل مناسب.
أسباب لتهدئة محتملة
إذا لم تحصل على عربات المشاة القتالية فلن تكون احتمالات مواصلة القوات الأوكرانية التمدّد شرقاً كبيرة، خوفاً من تعريض نفسها لمخاطر الإجهاد ثمّ الهجمات المضادة. علاوة على ذلك، من المفترض أن تكون منطقة دونباس أكثر تحصيناً من خاركيف طالما أنّ قسماً كبيراً منها (لا يقلّ عن الثلث) كان خاضعاً للقوات الانفصالية الموالية لموسكو منذ سنة 2014.
والقوات الأوكرانية بحاجة أيضاً لالتقاط الأنفاس بعدما تعرّضت لخسائر كبيرة في الأرواح خلال الأشهر الماضية. بالمقابل، ستحتاج روسيا أيضاً للاستراحة وإعادة تجميع قواتها كما إلى التعويض عمّا فقدته من آليات عسكرية حين كانت تنسحب من خاركيف.
مع ذلك، لن يكون توقّف المعارك أمراً محتوماً في المدى المنظور. تتزايد الضغوط الداخلية على الكرملين من قبل القوميّين المتشدّدين لحسم الحرب بأيّ طريقة ممكنة. بالمقابل، وخلال دعوة الغرب إلى مواصلة تقديم السلاح، يقول الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي: "ستكون الأيام التسعون التالية أكثر أهمية من ثلاثين عاماً من الاستقلال الأوكراني".
فهل تختار كييف وموسكو تجميد المعركة في الشرق تفادياً لخسائر محتملة قبل الشتاء أم ستكونان قادرتين على تحمّل بعض المخاطرة لتحسين موقعيهما قبل أن تفرض الأحوال الجوية وقفاً موقتاً للأعمال القتالية؟ سؤال مفتوح قد لا تتأخر الإجابة عنه.