عندما أُدخلت دروس عن الوطنية في البرنامج التعليمي لمدرستها في موسكو، رفضت تاتيانا تشيرفينكو تدريس تلامذتها ما اعتبرته "دعاية" سياسية، وذلك في خضم الغزو الروسي لأوكرانيا.
اغتنمت المدرِّسة البالغة من العمر 49 عامًا الفترات المحددة لهذا الغرض لتدريس الرياضيات بدلاً من ذلك وتجاهلت المسائل التي أراد الكرملين التركيز عليها بشأن النزاع الدائر في أوكرانيا.
كان الدافع وراء تحركها الاحتجاجي البسيط قلقها بإزاء الجهود الحكومية الجديدة لتعزيز النزعة الوطنية وعسكرة المجتمع على الطريقة السوفياتية.
لم يمر الأمر مرور الكرام.
ظهر رجال ملثمون في مدرستها في تشرين الأول وأخذوها في سيارة للشرطة واحتجزوها ساعات عدة.
وفي كانون الأول، وبعد أن قاومت على مدى عدة أشهر ضغوط الشرطة وإدارة المدرسة، طُردت تشيرفينكو من عملها.
قالت المدرِّسة لوكالة فرانس برس "انهم يريدون تربية جنود صغار. بعض الجنود الصغار سيذهبون للحرب وبعضهم الآخر سيصنع ذخائر وسيعمل آخرون على ابتكار برمجيات لكل ذلك. هذه هي لعبتهم على المدى الطويل".
- "تحول جذري" -
يتفق المحللون السياسيون وعلماء الاجتماع على أنه بعد مرور عام على إصدار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأمر بإرسال القوات إلى أوكرانيا، يضع الكرملين المجتمع في حالة تأهب للحرب ويُعده لنزاع قد يستمر سنوات.
عندما ألقى بوتين خطابه عشية رأس السنة الجديدة في كانون الأول، ظهر محاطًا لأول مرة بأفراد يرتدون الزي العسكري، ليحفّز الروس على تأييد الهجوم في أوكرانيا والمواجهة مع الغرب.
قال عالم الاجتماع غريغوري يودين لوكالة فرانس برس إن الكرملين يعد الروس لخوض "حرب وجودية كبرى" ويتم استخدام النظام التعليمي لتحقيق هذا الهدف، من خلال ما أطلق عليه "الحوار حول الأمور المهمة".
وأضاف يودين "نحن نتحدث عن تحول جذري وكامل في التعليم لتعبئة الشباب الروسي للحرب. في الوقت الحالي هذا له وظيفتان، الدعاية والتدريب العسكري الأساسي".
إضافة إلى إعطاء دروس في حب الوطن يُطلق عليها اسم "محادثات مهمة"، تم توجيه المدارس لعزف النشيد الوطني ورفع العلم.
منذ بداية أيلول، كان متوقعًا أن يبدأ طلاب المدارس الثانوية والجامعات في تعلم كيفية استخدام بنادق الكلاشنيكوف والقنابل اليدوية، وهي كانت من المواد الأساسية في المناهج الدراسية خلال الحقبة السوفياتية.
في جميع أنحاء روسيا، يتم تشجيع التلاميذ، حتى في رياض الأطفال، على بعث رسائل إلى الجنود الروس في أوكرانيا وصنع شباك تمويه وشموع للخنادق.
لكن الحملة الحكومية الشاملة لتعزيز الروح الوطنية داخل المجتمع تستهدف البالغين أيضًا.
إذ تنتشر اللوحات الإعلانية التي تمجد الجنود الروس وتحمل الحرف Z، رمز الهجوم، في كل مكان في المدن الروسية.
كما أمر بوتين بعرض أفلام وثائقية مخصصة لغزو أوكرانيا في دور السينما في جميع أنحاء البلاد.
واكتسب المراسلون العسكريون العاملون في وسائل الإعلام الحكومية شهرة كبيرة، وتم اختيار أحدهم لعضوية مجلس حقوق الإنسان في الكرملين.
- "تمجيد الموت" -
بلغت حماسة هذه الرسائل مستوى وصفه يودين بأنه "تمجيد الموت"، إذ تحث الروس على عدم الخوف من الموت.
في أيلول، عندما استدعى بوتين مئات الآلاف من جنود الاحتياط، قال البطريرك الأرثوذكسي الروسي كيريلوس خلال خطبة إن الموت في أوكرانيا "يمحو كل الذنوب".
وقال فلاديمير سولوفيوف، أحد أبرز أصوات الدعاية على التلفزيون الحكومي، في كانون الثاني "هناك مبالغة كبيرة في تقدير الحياة. لماذا الخوف مما لا مفر منه؟"
يرى أندريه كوليسنيكوف، الباحث في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، إن هذه الإشارات تدلل على تحول روسيا إلى الشمولية.
وقال كوليسنيكوف لفرانس برس متحدثًا عن منطق الحكومة، إن "على الأجيال القادمة تنفيذ إرادة الدولة بانصياع. لم نعد أمام (مجرد) دولة استبدادية".
لكن علماء الاجتماع يقولون إن الخطاب الوطني للكرملين يستميل العديد من الروس، على الرغم من خطط الحكومة لخفض الإنفاق الاجتماعي وتخصيص ثلث إجمالي الميزانية للدفاع والأمن.
- "أسلوب حياة عسكري" -
نيكولاي كاربوتكين هو من الروس العديدين الذين يدعمون "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا، بحسب تسمية الكرملين.
قال كاربوتكين لوكالة فرانس برس التي التقته في مدينة ملاهٍ عسكرية خارج سانت بطرسبرج "نحن في حالة حرب مع القيم الغربية التي يحاولون فرضها علينا".
وقال الرجل البالغ من العمر 39 عامًا الذي أحضر عائلته إلى الحديقة حيث يمكن للأطفال وأهلهم ركوب دبابات، إنه يؤيد التدريب العسكري الأساسي في المدارس.
واضاف "علينا تعزيز الروح الوطنية. هذا أمر جيد".
قال عالم الاجتماع يودين إن السلطات الروسية ستواصل تعزيز المشاعر العسكرية والوطنية في المجتمع طالما رأت ذلك ضروريًا. وأوضح أن "أسلوب الحياة العسكري... سيستمر ما دام بوتين وفريقه في الكرملين. إذا بقوا هناك مدة 20 عاماً، ستقاتل روسيا مدة 20 عامًا".