النهار

تغيّرٌ في موقف الثلاثي الأوروبي من حرب أوكرانيا؟
جورج عيسى
المصدر: "النهار"
تُصنّف فرنسا وألمانيا وإيطاليا ضمن "حزب السلام" الذي يريد إنهاء النزاع بأسرع وقت ممكن.
تغيّرٌ في موقف الثلاثي الأوروبي من حرب أوكرانيا؟
الرئيس لفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني اولاف شولتس ورئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي يتوجهون عبر القطار إلى كييف (أ ف ب).
A+   A-

في خطوة يمكن وصفها بـ"المفاجئة"، زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتس ورئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي أوكرانيا يوم الخميس للإعراب عن دعمهم لها في مواجهة الغزو الروسي. تُعرف هذه الدول الثلاث بأنها أكثر الدول ليونة في التعامل مع روسيا. قسّم رئيس "مركز الاستراتيجيات الليبيرالية" في بلغاريا إيفان كراستيف الانقسامات في أوروبا إلى صراع بين "حزب العدالة" الذي يريد دحر القوات الروسية ومعاقبة موسكو (يتركّز في الشرق) و"حزب السلام" (غرب) الذي يريد إنهاء الحرب بسرعة وخفض الأضرار الاقتصادية والبشرية إلى حدودها الدنيا. يمكن تصنيف إيطاليا وألمانيا وفرنسا في "حزب السلام".

تلكأت ألمانيا كثيراً في نقل الأسلحة الثقيلة التي وعدت كييف بها، بينما تقدّمت إيطاليا بخطّة تقترح إعطاء القرم ودونباس استقلالاً ذاتياً إلى حد بعيد حتى في مسائل الدفاع مقابل التوصل إلى السلام. رأى البعض في هذا المقترح دعوة ضمنية إلى أوكرانيا كي تتنازل عن أراضيها. أمّا فرنسا فقد أعلن رئيسها أنه يجب "عدم إذلال" روسيا على طريق البحث عن مخرج للأزمة. في مراحل مختلفة من الحرب، واجهت هذه الدول انتقادات من أوكرانيا بسبب مواقفها.

 

مواقف متقدّمة

خلال الزيارة، تعهّد المسؤولون الثلاث تقديم الدعم "من دون لبس". وقال ماكرون خلال مؤتمر صحافي إنّ فرنسا وألمانيا وإيطاليا تدعم منح أوكرانيا "فوراً" وضع المرشح الرسمي لعضوية الاتحاد الأوروبي. ومن المتوقع أن تناقش بروكسل مسألة العضوية خلال اجتماع للدول الأعضاء الأسبوع المقبل. يعدّ كلام ماكرون متقدّماً أيضاً لأنّه قال الشهر الماضي إنّ انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد قد يستغرق عقوداً. وأضاف أمس أنّ الدول الثلاث حضرت لتقدّم "رسالة وحدة أوروبية" و"دعم" لأوكرانيا في "الحاضر والمستقبل".

عندما وصل القطار الذي استقله المسؤولون الثلاثة إلى كييف قال ماكرون "إننا هنا، مركزون، ونحن على وشك لقاء الرئيس زيلينسكي الآن لزيارة موقع حرب حيث تم ارتكاب مجازر، ثمّ لقيادة المحادثات المقررة مع زيلينسكي". وقد تكون هذه المرة الأولى التي يستخدم فيها الرئيس الفرنسي كلمة "مجازر" في الحرب على أوكرانيا. وأشاد بـ"بطولة" الجيش والشعب في أوكرانيا عبر التصدّي للجيش الروسيّ. وتحدّث شولتس أيضاً عن "وحشية حرب الاعتداء الروسية" القائمة على "تدمير واجتياح" الأراضي "من دون اعتبار للحياة الإنسانية".

التصعيد في نبرة فرنسا وألمانيا ترافق مع تصعيد في تحديد الأهداف. قال ديبلوماسي فرنسيّ أمام مراسلين إنّ "على زيلينسكي تحديد ما قد يشكّل انتصاراً عسكرياً بالنسبة إليه... نحن نؤيّد تحقيق انتصار كامل مع استعادة وحدة جميع الأراضي (الأوكرانية) التي احتلها الروس بما فيها القرم". وكانت موسكو قد ضمّت شبه الجزيرة سنة 2014. يعدّ هذا التصريح مرتفع السقف أقلّه بالنسبة إلى ما كان يستشفّ من المواقف الفرنسية السابقة بشأن ضرورة إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. وتحدّث دراغي أيضاً عن ضرورة وقف "الأعمال الوحشية" قائلاً إنّ أوكرانيا "يجب أن تدافع عن نفسها إذا أردنا السلام، وستختار أوكرانيا السلام الذي تريده".

 

رسالتان... وحذر

تبيّن هذه التصريحات تغيّراً كبيراً في موقف الثلاثيّ. بحسب ديفيد هرسينهورن من مجلة "بوليتيكو"، وجّه الرؤساء الثلاثة رسالة "لا لبس فيها" إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: "فضاء النفوذ السوفياتي مات – ولن يعاد إحياؤه عن طريق القوّة". وثمّة رسالة أخرى أكثر مباشرة وفقاً للكاتب نفسه: "الاتحاد الأوروبي وحلفاؤه لن يلووا ذراع أوكرانيا نحو أي استسلام أو تسوية حول الأراضي من أجل إنهاء الحرب".

لكنّ الحذر واجب لدى توقّع تغيّر جذريّ في تفكير غالباً ما يحمل طابعاً استراتيجياً. ربّما تسرّع المراقبون حين تحدّثوا عن وحدة غربية في مواجهة الغزو الروسيّ لأوكرانيا. كان ذلك صحيحاً إلى حدّ بعيد في الأسابيع الأولى على الغزو، لكنّ الخلافات بدأت تتظهّر لاحقاً. وانطبق الأمر نفسه على "الانعطافة" في السياسة الألمانية بعدما قبلت بزيادة الإنفاق الدفاعي ودعم أوكرانيا عسكرياً ووقف مشروع "نورد ستريم 2". لكنّ الدعم العسكريّ لكييف كان بطيئاً ومتردّداً. وهذا ما أثار قلق الأوكرانيين في وقت تنجح روسيا بالتقدّم في لوغانسك بشكل تدريجيّ لكن ثابت عن طريق القضم.

وقال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الأربعاء في مقابلة مع "دي تسايت" الألمانية إنّ "كل قادة الدول الشريكة لنا وبالطبع المستشار بينهم، يعرفون تمام المعرفة ما تحتاج إليه أوكرانيا، المشكلة فقط هي أنّ دفعات (الأسلحة) من ألمانيا ليست بالمستوى اللازم"، وفقاً لوكالة "فرانس برس".

على الأرجح يعود تباطؤ تسليم الأسلحة إلى رغبة ألمانية بعدم إغضاب بوتين. نقلت الوكالة نفسها عن مديرة "مركز الأمن الدولي" ماريا هنكه قولها إنّه "في ألمانيا تسود فكرة أنّ روسيا بلد ضخم على أبوابنا وعند اتّخاذ أيّ قرار يجب أن نفكّر كيف سنفعل للتعايش معها على المدى البعيد".

 

"لن تقول ذلك بصوت مرتفع"

حتى مع افتراض حصول تغيير في موقف الثلاثي الأوروبي، فهو لن يرقى إلى مستوى التغيير الجذري. سيفضّل الثلاثي دوماً حلّ النزاع عبر التفاوض وهو ما أكّده ماكرون أمس. الترقّب الآن يهدف إلى معرفة ما إذا كان الثلاثي سيعزّز موقع أوكرانيا التفاوضيّ قبل الجلوس إلى الطاولة أو ما إذا كان سيكتفي بانتظار أن يؤدّي تعب الأوكرانيين (والروس) إلى دفعهم تلقائياً نحو المحادثات.

بمعنى آخر، إنّ الحديث عن قبول الأوروبيين الغربيين بما تقبله أوكرانيا على طاولة التفاوض قد يكون من باب اللياقات الديبلوماسية فقط. تستمدّ أوكرانيا قوّتها في المفاوضات من قوّتها الميدانيّة. والأخيرة مبنيّة على سرعة ونوعيّة السلاح المحوّل إليها. إنّ مواصلة أوروبا الغربية التباطؤ في نقل الأسلحة الثقيلة (خصوصاً مع ألمانيا) قد يشكّل دفعاً غير مباشر لأوكرانيا كي تنهي النزاع بـ"أقلّ الخسائر الممكنة".

ليس أدلّ إلى ضرورة الحذر من المبالغة في الحديث عن انعطافة لدى هذا الثلاثيّ على مستوى دعم أوكرانيا من تحليل سايمون كوبر أمس في صحيفة "فايننشال تايمس". بحسب منظور أوروبا الغربية، لم تكن روسيا يوماً مصدر خطر أساسيّ عليها، لذلك هي تأمل بأنّ إنهاء سريعاً للحرب حتى ولو تضمّن منح روسيا بعض الأراضي الأوكرانية بحكم الأمر الواقع سيخفّف كلفة المعيشة وخطر اندلاع أزمة نووية. واستفادت أوروبا الغربية من الطاقة الروسية الرخيصة الثمن كما من رساميل الأثرياء الروس. في أوروبا الغربية "لن تقول ذلك أبداً بصوت مرتفع، لكنّك لا تأبه كثيراً لأوكرانيا".

ربّما شكّلت زيارة أمس فرصة لباريس وروما وبرلين لدحض هذه الفرضيّة – لكن ربّما أيضاً لتكريسها. الأكيد أنّ التحوّلات الجذريّة في السياسات الخارجيّة، لو حدثت، تستغرق وقتاً طويلاً للتبلور.

 

اقرأ في النهار Premium