النهار

طموح ماكرون الديغوليّ يتعثّر... مجدّداً
جورج عيسى
المصدر: "النهار"
تصريحات ماكرون لا تنفكّ تصطدم بواقع فجّ.
طموح ماكرون الديغوليّ يتعثّر... مجدّداً
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ينظر إلى تمثال الرئيس الأسبق شارل ديغول خلال احتفال بمناسبة مرور 75 عاماً على نهاية الحب العالمية الثانية (أ ب)
A+   A-

بعد سنوات قليلة على انهيار الاتّحاد السوفياتيّ، عدّل الصحافيّ رودجر كوهين الكوجيتو الديكارتيّ "أنا أفكرّ إذاً أنا موجود" كي يطبّقه على فرنسا. سنة 1994، كتب كوهين في "نيويورك تايمز" مقالاً بعنوان: "فرنسا تقول للولايات المتحدة، ‘أنا أعارض، إذاً أنا موجودة‘". كان كوهين يشير إلى حملة الانتقادات التي تواظب باريس على توجيهها ضدّ سياسات واشنطن كلّ بضع سنوات: "من اليمين الديغوليّ اليوم إلى المفكّرين اليساريّين من تلاميذ سارتر، هذا ‘العداء لأميركا‘ غالباً ما يستمر في الأعماق".

بعد نحو 30 عاماً، يترسّخ هذا الواقع أكثر. يواصل الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون إطلاق أفكار مناوئة للأميركيّين تثير حيرة الحلفاء. لفرنسا رئيس مندفع. ما إذا كان هذا الاندفاع يصبّ في مصلحتها أمر يقرّره الفرنسيّون، لكنّ الواضح أنّه يتسبّب بمواقف سلبيّة أكثر حدّة تجاه الولايات المتحدة. التصريحات التي أطلقها ماكرون قبل وخلال زيارة الصين عن تايوان والولايات المتحدة والدولار... مثلٌ شديدُ السطوع. يريد ماكرون أن يصبح ديغول القرن الواحد والعشرين، ولو بدون الخروج من القيادة العسكريّة للناتو كما حصل سنة 1966. غير أنّ السقف الماكرونيّ لم يكن بعيداً جدّاً من السقف الديغوليّ: "الناتو ميت دماغيّاً"، قال ماكرون سنة 2019.

في الظاهر، كان للرئيس الفرنسيّ حينذاك ما يبرّر نوعاً ما حدّة تعبيره، إذ جاء كلامه بعد إعلان نظيره الأميركيّ دونالد ترامب سحب قوّاته من شمال شرق سوريا بشكل مفاجئ ممّا عرّض القوّات الفرنسيّة للخطر. لكن في العمق، مثّلت الخطوة الأميركيّة ذريعة لماكرون كي يدفع باتّجاه تحقيق حلمه: "الاستقلاليّة الاستراتيجيّة" لأوروبا.

 

الاستياء الماكرونيّ قديم

سنة 2018، دعا ماكرون إلى تأسيس "جيش أوروبّيّ حقيقيّ". السبب؟ "علينا أن نحمي أنفسنا إزاء الصين، روسيا وحتى الولايات المتحدة". رغبة ماكرون بتشكيل جيش أوروبّيّ يحمي القارّة ممّن يدافع عنها (أو حتى من تدخّله بشؤونها بحسب تفسيرات البعض) مفاجئ على أقل تقدير. اليوم، يجتاح الجيش الروسيّ أراضيَ أوروبّيّة. والولايات المتحدة، كما هو متوقّع، هي التي تتحمّل الكلفة العليا للدفاع عنها.

مساواة روسيا بالولايات المتحدة كانت خطأ ولو أنّ "الاستقلاليّة الاستراتيجيّة" تقتضي نظريّاً تموضع فرنسا على مسافة واحدة بين الطرفين. لكنّ التموضع الذي أراده الرئيس الفرنسيّ لم يأخذ بالاعتبار القيم الغربيّة نفسها والتاريخ المشترك بين باريس وواشنطن. كما لم يُقم وزناً لتفاوت موازين القوى بشكل فاقع بين الطرفين. السيناتور ماركو روبيو ذكّر ماكرون بأنّه كان بحاجة للجيش الأميركيّ حتى كي ينقل قوّاته إلى أفريقيا.

جلّ ما ركّز عليه الرئيس الفرنسيّ، ولا يزال، هو أوروبا "مستقلّة" عن الأميركيّين مهما كلّف الأمر. في ذهنه، تلوح أوروبا كقطب ثالث بعد الولايات المتحدة والصين، بالرغم من أنّه قطب يعاني في الدفاع عن نفسه من دون واشنطن. والمفارقة الأخرى أنّ فرنسا هي من أقلّ الدول الأطلسيّة مساهمة في الدعم العسكريّ لأوكرانيا. 

تستدعي فكرة تأسيس جيش مستقلّ لبروكسل سؤالاً آخر عن سبب عدم حماسة الأوروبّيّين، بل حتى الجيران الألمان، تجاه هذه الفكرة. الجواب بسيط: لا يثق الألمان، ناهيكم عن الأوروبيين، بطروحات ماكرون. يعتقد الأوروبيون، أو قسم منهم على الأقل، أنّه يريد استبدال قيادة الولايات المتحدة لبروكسل بالقيادة الفرنسيّة واستخدام الجيش الأوروبّيّ لتحقيق مصالح فرنسيّة.

 

الريبة تتوسّع

حتى الآسيويّون المتحالفون مع الولايات المتحدة قد لا يثقون بماكرون. يبدو أنّ أحد أسباب تخلّي الأستراليّين عن صفقة الغوّاصات الفرنسيّة سنة 2021 هو خوفهم من تخلّي باريس عنهم ومنعهم من استخدام الغوّاصات لو اندلعت حرب في منطقة الإندو-باسيفيك. يبدو أنّ حساباتهم قد صحّت، بعدما اعتبر ماكرون أنّ تايوان يجب ألّا تكون أولويّة أوروبّيّة، بالرغم من توضيح لاحق عن أنّ الموقف الفرنسيّ لم يتغيّر.

حتى في الشكل، أثارت زيارة ماكرون علامات استفهام بالجملة. لماذا اصطحب معه رئيسة المفوّضيّة الأوروبّيّة أورسولا فون دير لاين إلى الصين، خصوصاً أنّ دعوته إيّاها جاءت في اللحظات الأخيرة؟ تملك المفوّضيّة الأوروبّيّة موقفاً أكثر تشدّداً من الموقف الفرنسيّ تجاه بكين. صحيح أنّه لا يرقى إلى السياسات الأميركيّة الداعية إلى فكّ الارتباط مع الصين، لكن مع ذلك، تحتفظ بروكسل بنظرة أقرب إلى النظرة الأميركيّة منها إلى الموقف الفرنسيّ. استفاد ماكرون من ذلك. لقي ترحيباً صينيّاً أحرّ من الترحيب الذي حظيت به فون دير لاين، وهو مشهد يعجب على الأرجح الرئيس الفرنسيّ. من ناحية ثانية، ربّما أراد ماكرون اصطحاب فون دير لاين ليتمكّن من تأدية دور "الشرطيّ الجيّد" في مقابل "الشرطيّ السيّئ" الذي مثّلته رئيسة المفوّضيّة. فكرة الاستعانة بكبار القادة الأوروبّيّين لإفادة فرنسا لن تكون مستساغة في بروكسل.

 

طلب من ديغول... وآخر من بايدن

أن يدّعي ماكرون ضرورة حياد أوروبا تجاه تايوان، بل أن يقصد بكلامه ضمناً تسريع واشنطن للتوتّر في المضيق، أثار جدلاً واسعاً في الغرب. هو يريد من واشنطن التدخّل في نزاع أوروبّيّ، مع "ردّ جميل" فرنسيّ يقضي بألّا تدعم فرنسا أميركا في مضيق تايوان. بشكل أو بآخر، يذكّر هذا التصريح بطلب شهير لديغول من الولايات المتحدة.

حين اتّصل الرئيس الفرنسيّ الأسبق بنظيره الأميركيّ ليندون جونسون ليطلب منه إخراج قوّاته من القارة الأوروبّيّة أجابه الأخير: "هل يشمل ذلك الأميركيّين القتلى في المقابر العسكريّة أيضاً؟" يعتقد أكثر من مراقب بأنّ ماكرون يرغب بإعادة إحياء سياسات ديغول التي لم تنجح بالرغم من أنّه لا يملك خبرته أو ثقله السياسيّ. هو يفقد ثقة الفرنسيّين إلى درجة أنّه لو أجريت الانتخابات الرئاسيّة اليوم بدلاً من السنة الماضية لفازت مارين لوبان بحسب أحد استطلاعات الرأي. وهذا قبل البحث في ثقة الأوروبّيّين به. ذكرت "فايننشال تايمز" أنّ الأسبوع الماضي كان الأسبوع الذي تعثّر فيه المشروع الديبلوماسيّ الكبير لماكرون. لكن عمليّاً كان مشروعه الديبلوماسيّ يصطدم بتعثّر تلو الآخر طوال السنوات الست الماضية. هل يأخذ الرئيس الفرنسيّ فترة استراحة للتأمّل في مشروعه، أو على الأقلّ في طريقة التعبير عنه؟ قال ديبلوماسيّ فرنسيّ سابق للصحيفة نفسها إنّ ماكرون ليس من النوع الذي يعترف بأخطائه.

قد يكلّفه ذلك، من جهة، عزلة متزايدة على الصعيد الدوليّ، وربّما، من جهة ثانية، دفع ثمن "باهظ" على الضفّة الأخرى من الأطلسيّ. تعليقاً على تصريحات ماكرون، كان لـ"وول ستريت جورنال" في افتتاحيّتها طلبٌ من الرئيس الأميركيّ جو بايدن: "أن يتّصل بالسيّد ماكرون ويسأل عمّا إذا كان يحاول إعادة انتخاب دونالد ترامب".

 

اقرأ في النهار Premium