تواصل الحرب على أوكرانيا تقديم مادة حيوية للسجال بشأن صوابية أو عدم صوابية "الواقعية" و"الواقعيين" في استشراف الأزمات السياسية والعسكرية الكبيرة قبل حدوثها. خلال الأسبوع الماضي، نشّط أستاذان جامعيان بارزان النقاش حول الواقعيّة السياسيّة وإن من منظورين مختلفين إلى حد ما. في 13 حزيران، نشرت مجلّة "فورين بوليسي" مقالاً لأستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد ستيفن وولت يشرح فيه سبب "كره" الناس للمدرسة الواقعيّة. وفي 15 حزيران، كتب الأستاذ المشارك للعلوم السياسية في جامعة شبكاغو پول پوست مقالاً في مجلة "فورين أفيرز" مقالاً بعنوان "عالم قوة وخوف" يفسّر فيه مكمن الخطأ لدى نقّاد هذه المدرسة.
سبب النفور... لا أمل
يتّفق والت وپوست على سبب أساسيّ يجعل الواقعية تثير نفور الناس من مختلف المشارب. تنطلق الواقعيّة إلى حدّ كبير من طبيعة بشريّة "معيوبة" و"الأسوأ" أنها غير قابلة للإصلاح بحسب الأوّل ومتّسمة بانعدام الأمل وفقاً للثاني. يقتضي ذلك الاعتراف بصعوبة إيجاد مؤسّسة عالميّة موحدة قادرة على تفادي النزاعات أو حلّها. لكن في ما خلا ذلك، ثمّة فرق كبير في المنهجيّة التي يعتمدها الأكاديميان. يبقي پوست على مسافة من هذه المدرسة طوال مقاله، بينما لا يخفي وولت إعجابه بل انتماءه لها ويرى فيها أنّها توقّعت بنجاح الحرب على أوكرانيا قبل فترة طويلة من حصولها، ملقياً اللوم على السياسة الغربية بشكل كبير في إطلاق شرارتها، من دون أن يعفي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من مسؤولية شنّ حرب غير مبرّرة.
انطباعات خاطئة
السبب الثاني لكره الأميركيّين المدرسة الواقعيّة وفقاً لوولت هو اعتقادهم أنّ مؤيّديها يعتنقون التشدّد والحلول العسكريّة للمشاكل. لكن باستثناء كيسنجر، كان الواقعيّون مثل وولتر ليبمان وجورج كينان وهانز مورغنتاو من "الحمائم" الذين عارضوا حرب فيتنام كما عارض خلفاؤهم في الفكر الحرب على العراق. أما السبب الثالث فهو النظرة غير المبالية أو حتى العدائية تجاه الاعتبارات الأخلاقية. لكن تقود معظم الواقعيين التزامات أخلاقية عميقة وهم يشدّدون في الوقت نفسه على أهمية التعامل بأخلاقية في السياسة الدولية بالرغم من الضغوط لفعل العكس. وبالنسبة إليهم، لا تكفي النوايا الحميدة في السياسة الدولية إذا أنتجت مزيداً من غياب الاستقرار أو المعاناة البشرية. وأشار وولت إلى أنّ الولايات المتحدة تسبّبت بمآسٍ أيضاً حين ظنّت أنّ أمنها القوميّ على المحكّ (فيتنام، كمبوديا، نيكاراغوا) كما فعل الاتحاد السوفياتي.
تفصيل مهمّ
لا يحاول پوست الدفاع عن المدرسة الواقعيّة بالاستناد إلى أيّ مزايا مفترضة كامنة فيها. لكنّه يلفت النظر إلى الالتباس الذي يقع فيه المراقبون حين يدمجون بين الجانب التفسيريّ لهذه النظريّة والجانب التوجيهيّ. من بين الأمثلة على ذلك، دفاع الواقعيّ كينيث وولتز عن ضرورة زيادة الأسلحة النووية لا تخفيض عددها. اعتمد وولتز على المقاربة التفسيرية للواقع (احتمال الحرب يزيد كلّما ضعف الردع) لينتقل بعدها إلى المقاربة التوجيهية (الأسلحة النووية تزيد الردع) بالتالي، يجب الترحيب بانتشار الأسلحة النووية. النظرية الواقعية تحاول وصف العالم، لكنّ التوجيهات تعكس مقاربات الأفراد لا مقاربة النظريّة نفسها بحسب رأيه.
ثناء
لا يختلف پوست ووولت في الثناء (بالرغم من الاختلاف في حجم الثناء) على المدرسة الواقعية من حيث قدرتها على تفسير جزء كبير من سلوكيات الدول. يستحضر پوست مثلاً كيف توقّع جون ميرشايمر، بعد نهاية الحرب الباردة، العودة إلى سياسات القوة العظمى. بالمقابل، كان صمويل هانتغتون يبشّر بانتقال الصراع إلى المستوى الثقافيّ والدينيّ بشكل أخصّ. أصاب ميرشايمر بما أنّه كان يفترض أن يكون التحالف بين أوكرانيا وروسيا هو السائد اليوم لأنّهما مرتبطتان من الناحية الثقافية والدينية والتاريخية وفقاً لنظريّة هانتغتون.
الاعتبارات الشخصية حاضرة دوماً
حتى في الجانب التفسيري، لا يمكن دوماً الركون إلى أنّه خالٍ من أيّ اعتبارات شخصيّة. توقّع ميرشايمر مثلاً غزو روسيا لأوكرانيا بسبب عدم اعتناقها الحياد وفتح أبواب حلف شمال الأطلسيّ أمامها. وولت من مؤيّدي هذه النظريّة أيضاً. مع ذلك، يرى باحثون آخرون يصنّفون نفسهم في خانة "الواقعيّة" أنّ روسيا اجتاحت أوكرانيا ليس بسبب توقها إلى الانضمام للناتو بل لأنّها أساساً لم تكن عضواً فيه. ما يزيد من احتمالات دقّة هذه الفرضيّة أنّ أوكرانيا كانت محايدة بحكم الأمر الواقع طوال السنوات الماضية. بمجرّد تأجيل البحث في قضيّة منح أوكرانيا العضويّة الأطلسيّة إلى ما لا نهاية، كانت آفاق حدث كهذا مغلقة. علاوة على ذلك، لو كان الناتو سبباً لحرب روسيا على أوكرانيا لما تخلّت السويد وفنلندا عن عقود طويلة من الحياد لتنضمّا إلى الحلف. بمعنى آخر، لقد وجدتا فيه ضمانة لأمنهما لا استفزازاً للمشاعر الروسية. وبالمناسبة، كان ردّ فعل روسيا على خبر طلب الدولتين الحصول على عضويّة الناتو معتدلاً إلى حدّ ما، أقلّه عند احتساب أنّ الحلف الأطلسيّ سيكتسب 1300 كيلومتر إضافي من الحدود المشتركة مع روسيا.
ورأى وولت أنّ الواقعيّين كانوا محقّين حين نصحوا أوكرانيا بعدم التخلّي عن أسلحتها النوويّة سنة 1994 كي تضمن عدم اعتداء جارتها عليها (ميرشايمر كتب ذلك سنة 1993). لكن في هذه النصيحة تناقضٌ فاقع مع نظريّة "الناتو مسؤول عن غزو أوكرانيا". بهذه النصيحة، كان الواقعيّون يتنبأون ضمناً بأنّ روسيا ستغزو أوكرانيا عند تخلّيها عن أسلحتها النووية على الرغم من أنّ موجات التوسّع الأطلسيّ شرقاً لم تكن قد بدأت أساساً. من ناحية ثانية، إذا كانت أوكرانيا قد "أخطأت" بالتخلّي عن قوّتها الرادعة حينها (السلاح النووي) وفقاً لتقييم الواقعيّين، فهي عملت على محاولة "تصحيح" الخطأ عبر التعويض بقوّة رادعة أخرى هي الناتو. ومع إضافة أنّ الحلف الأطلسيّ قوّة نوويّة، (بصرف النظر عمّا إذا كان سينشر أسلحة نووية في أوكرانيا وهو أمر مستبعد كما هي الحال مع دول البلطيق) تكون أوكرانيا، وفقاً لما يحتّمه تسلسل منطق "الواقعيّين" نفسه، قد استبدلت سلاحها النوويّ بمظلّة نوويّة أخرى. هذا مع العلم أنّ أوكرانيا لم تكن تملك سيطرة عملية على تلك الأسلحة، وبالتالي، ثمّة علامات استفهام حول قدرة سلاح أوكرانيا النووي على ردع غزو روسي.
ماذا عن أزمات أخرى؟
يعترف وولت في مقاله الأخير، كما في مقالات سابقة، بأنّه لا يمكن تفسير العلاقات الدولية بناء على نظرية واحدة. لكنّه يقول إنّ للواقعيّة سجلّاً طويلاً في "صوابية" توقعاتها. إلى جانب التحذير من توسيع الناتو ومن تسليم أوكرانيا سلاحها النووي، وهما مثلان غير خاليين من الشوائب، تحدّث أيضاً عن تحذيرات سابقة من شنّ الحرب على العراق ومن "حماقة" بناء الأمم في أفغانستان. لكن حتى في هذين التحذيرين إشكاليات أخرى. من السهل بالنسبة إلى الأكاديميين القول إنّه ما توجّب على واشنطن إطاحة نظام صدام بسبب شبهة حيازته أو إمكان حيازته أسلحة دمار شامل. لكن بالنسبة إلى قيادة أميركية لم تكن قد خرجت بعد من صدمة 11 أيلول، كان أدنى احتمال بتطوير صدام أسلحة نووية أو تعاونه مع "القاعدة" يثير قلقاً مضاعفاً في واشنطن. وترافق ذلك مع ارتفاع وتيرة العمليات الإرهابية حول العالم بين 2001 و 2003 كما مع "لعبة انتحاريّة" قادها صدام. هذه الأسباب وغيرها دفعت إدارة بوش إلى اتّخاذ قرار الغزو.
ليس أنّ القرار نفسه كان أفضل الخيارات الموجودة لمنع عملية إرهابية أخرى، لكنّ تحليل القرار من داخل مؤسسة رأي أميركية يختلف حتماً عن تحليله من داخل أروقة البيت الأبيض مع سيل من المعلومات الاستخبارية التي كانت تصل إليه يومياً. في جميع الأحوال، وعلى الرغم من كلّ ما مرّ به العراق منذ عشرين عاماً، لا تزال غالبية عراقية ترى أنّ الديموقراطية هي أفضل شكل ممكن للحكم في العراق. حتى في أفغانستان، لا يمكن القول إنّ بناء دولة-أمة فشل من دون مسحة مبالغة أو على الأقلّ من دون تجاهل أخطاء أميركيّة ارتكبت في صياغة نظام الحكم، وتجاهل أنّ معظم الأفغان لم يرغبوا بالعيش في ظلّ "طالبان". كذلك، لم تكن براهين "الواقعيين" في افغانستان وجلّهم من الداعين إلى الانسحاب المبكر، تصمد عند التدقيق عبر الأرقام. علاوة على ذلك، لم يكن السبب الرئيسي لوجود أميركا في أفغانستان "بناء الدول" بل منع هجوم إرهابيّ آخر.
لا تعني هذه البراهين أنّ "الواقعيّة" عاجزة عن تفسير الكثير من الظواهر في العلاقات الخارجيّة. لكنّ قدراتها "الاستباقيّة" للأحداث مضخّمة، أو على الأقلّ قدرات "الواقعيّين" أنفسهم في هذا المجال. يمكن أن تتحقّق توقّعات كثيرة لأسباب مغايرة عن تلك التي يقدّمها "الواقعيّون". ماذا لو غزا بوتين أوكرانيا لكونه لا يعترف باستقلالها بدلاً من كونه يخشى توسّعاً أطلسيّاً كما يفترض "الواقعيّون"؟ لنظريّة الواقعيّة حدودها، كما هي الحال مع نظريّات سياسيّة أخرى. وكلّما ازداد الاستناد إليها كنهج توجيهيّ لا كنهج تفسيريّ، ازدادت أكثر فرص الاصطدام بتلك الحدود.