مرّ أسبوع على المفاجأة الأولى في الانتخابات التركيّة العامّة. الرئيس رجب طيّب أردوغان يخرج أقوى بكثير من الانطباعات والاستطلاعات. الآن، يفصل المراقبين أسبوع واحد عن معرفة النتيجة النهائيّة. هذه المرّة قد تكون المفاجأة أقلّ حجماً إذا استطاع أردوغان كسب السباق الرئاسيّ. فغالبيّة الاحتمالات باتت تصبّ في مصلحته.
تفوّق الرئيس التركيّ على خصمه كيليجدار أوغلو بنحو خمس نقاط مئويّة في الجولة الأولى. وكان بحاجة إلى أقلّ من نقطة مئويّة واحدة حتى يتجنّب جولة الإعادة. دخل كيليجدار أوغلو السباق الرئاسيّ مدعوماً من ستة أحزاب. لم يحصل على هذا الدعم بسهولة. يبلغ مرشّح المعارضة 74 عاماً مقابل 69 للرئيس الحاليّ. إذا كان على تركيا أن تختار "المستقبل" و"التطلّع إلى الأمام" عوضاً عن "الماضي"، فسيكون من الصعب اعتبار كيليجدار أوغلو أفضل خيار لتجسيد هذا التطلّع. لا تقاس حظوظ الفوز بأعمار المرشّحين وحدها بطبيعة الحال. على الأقلّ، هذا ما تؤكّده الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة.
مشكلة كيليجدار أوغلو
بحسب بعض حلفائه، هو يفتقر للكاريزما. في آذار، هدّد "حزب الخير" بفضّ التحالف اعتراضاً على اقتراح "حزب الشعب الجمهوريّ" كيليجدار أوغلو كمرشّح رئاسيّ. أراد الحزب مرشّحاً أكثر شباباً وتمتّعاً بالجاذبيّة كي يخوض السباق مثل عمدة أنقرة منصور يافاش وعمدة اسطنبول أكرم إمام أوغلو. منطلق "حزب الخير" كان مفهوماً. لقد تمكّن هذان المرشّحان من توجيه ضربة انتخابيّة قاسية خلال الانتخابات البلديّة سنة 2019 للحزب الحاكم، "العدالة والتنمية". جسّدت اسطنبول بالتحديد، المدينة التي أطلق فيها أردوغان مسيرته السياسيّة، الخسارة الرمزيّة الأقسى بالنسبة إلى الرئيس التركيّ خصوصاً أنّ حزبه مني بها في جولتين انتخابيّتين، بعد طعنه بنتيجة الأولى.
قبِل "حزب الشعب الجمهوريّ" بأن يتولّى إمام أوغلو ويافاش نيابة الرئاسة في حال الفوز لطيّ صفحة الخلاف. وبينما ظلّ إمام أوغلو المرشّح المفضّل لعدد من المعارضين، صدر حكم في كانون الأوّل قضى بسجنه عامين وسبعة أشهر إلى جانب حظر ترشّحه للانتخابات العامّة بسبب "إهانة" مسؤولين خلال كلمة ألقاها بعد فوزه. كان بإمكان الطعن أن يبطل الحكم غير أنّ قلّة توقّعت أن تصدر نتيجته قبل الانتخابات العامّة. في نهاية المطاف، ارتبطت هويّة المرشّح بالقرار الحزبيّ أكثر من ارتباطها بقرار المحكمة.
راهن كيليجدار أوغلو على مساهمة اتّحاد المعارضة وتدهور الوضع الاقتصاديّ في إيصاله إلى الرئاسة خلال الجولة الأولى أو على الأقلّ أن يتوجّه إلى الجولة الثانية متقدّماً على الرئيس. صحيحٌ أنّ الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة كانت الأولى التي تفرض على أردوغان خوض جولة إعادة، لكنّ ذلك لا ينفي واقعاً آخر أشدّ قسوة على المعارضة وهو أنّ أردوغان بات أقرب إلى الفوز. كلّ ما يحتاج إليه هو أن يصبّ جزء صغير من أصوات المرشّح القوميّ الثالث سينان أوغان (5.17%) لمصلحته يوم الأحد المقبل كي يضمن الفوز. من المتوقّع أن يعلن أوغان الاثنين لمن سيجيّر دعمه الانتخابيّ.
هنا المفارقة
رأى البعض في الزلزال الذي ضرب تركيا شهر شباط الماضي عاملاً محوّلاً للرأي العام التركيّ. فالزلزال الذي راح ضحيّته أكثر 50 ألف قتيل كشف حجم الفساد في قطاع البناء وبطء عمليّات الإغاثة بحسب تقارير عدّة. مرّة أخرى، جاءت النتائج مفاجئة. فغالبيّة المناطق المتضرّرة في جنوب شرق البلاد أعطت أصواتها للرئيس وحزبه لا لمرشّح المعارضة. بحسب موقع "بيانات" التركيّ، تقدّم أردوغان على منافسه في 8 من أصل 11 محافظة. بينما تمكّن "العدالة والتنمية" من الفوز في 10 من أصل 11 محافظة متضرّرة وفقاً لـ"رويترز". ونقلت عن الخبير في استطلاعات الرأي محمد علي كولات قوله إنّ المستطلَعين الناجين انتقدوا فعلاً الحكومة وقالوا إنّهم لن يصوّتوا لها. "لكنّ هؤلاء الناس كانوا يتطلّعون أيضاً إلى جواب عن سؤال "من سيبني منزلي، من سيبني مكان عملي؟".
يبدو أنّ الجواب بالنسبة إلى معظمهم، لم يكن كيليجدار أوغلو. وهنا المفارقة.
في آب 1999، ضرب زلزال بقوّة 7.6 درجات مدينة إزميت ودمّر جزءاً من اسطنبول. قاد أردوغان حملة الانتقادات ضدّ حكومة بولنت إشفيت بسبب استجابتها السيّئة للزلزال. كان للانتقاد أثر بارز في إطلاق حملة أردوغان السياسيّة خصوصاً أنّ الزلزال ضرب المدينة بعد ثلاثة أسابيع على خروجه السجن الذي أودع فيه بسبب اقتباسه شعراً لأديب تركيّ إسلاميّ. يبدو أنّ زلزال 2023 مختلف عن زلزال 1999 من ناحية تداعياته السياسيّة. علماً أنّ زلزال إزميت خلّف نحو ثلث أعداد الضحايا التي تسبّب بها زلزال شباط الماضي.
اللافت أيضاً أنّ زلزال 1999 ساهم في إيصال أردوغان إلى الحكم بعد ثلاثة أعوام تقريباً. زلزال 2023 قد لا يساعد كيليجدار أوغلو على الفوز الحكم بعد ثلاثة أشهر ونيّف. سيترك ذلك أسئلة عمّا إذا كان الأتراك لم يتغيّروا على الرغم من هول الكارثة. ربّما يكمن الجواب في تقرير الصحافيّة المقيمة في تركيا نعومي كوهين والذي نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركيّة.
بحسب مقابلاتها، يظهر أنّ بعض المنكوبين يخشى التغيير بسبب احتمال العودة إلى التضييق الدينيّ في ظلّ الحكم العلمانيّ أو بسبب ارتباطات معيشيّة بالحكومة أو ببساطة لأنّ الكارثة أكبر من أن تستوعبها أيّ حكومة، بقيادة أردوغان أو غيره. وتقول كوهين: "حين تظلّ الحياةُ سؤالَ اليوم، لا الغد، يمكن أن يبدو التصويت من أجل التغيير كمقامرة كبيرة".
خوفٌ يعزّزه سؤال آخر
بحسب ما يتبيّن من الجولة الانتخابيّة الأولى، ليس الخوف من المقامرة محصوراً بالمناطق المتضرّرة. ثمّة اتّجاه تركيّ عام يخشى "المقامرة" بتغيير رئاسيّ كبير. ستزداد هذه الخشية حتماً بعد فوز "حزب العدالة والتنمية" وحليفه "حزب الحركة القومية" بالغالبيّة النيابيّة. من يريد رئيساً جديداً لكنْ مكبّلاً في وقت تحتاج البلاد لخطّة تعافٍ سريعة؟ هذا ما سيفكّر فيه قسم كبير من الأتراك حين يتوجّهون إلى صناديق الاقتراع الأحد المقبل. سينتظر العالم ليرى ما إذا كان هذا القسم هو الأكبر بين الناخبين.
في النهاية، يستحيل إنكار أنّ المعارضة التركيّة حقّقت تقدّماً ملحوظاً في الانتخابات الرئاسيّة. مع ذلك، يبقى التغيير الذي حصل أبطأ ممّا توقّعه كثر بالاستناد إلى الأزمات السياسيّة والاقتصاديّة والطبيعيّة المتلاحقة. إنّه بالتأكيد أبطأ ممّا توقّعه الغرب، ومعه الأتراك القاطنون في المدن الكبرى.