النهار

النهار

انضمام فنلندا والسويد للناتو قد يزعج ماكرون؟
جورج عيسى
جورج عيسى
المصدر: "النهار"
ماكرون رحّب بخطوة البلدين. لكن ثمّة إطار أوسع يمكن أن تُفهم من خلاله هذه الخطوة.
انضمام فنلندا والسويد للناتو قد يزعج ماكرون؟
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون - "أ ف ب"
A+   A-

من المفترض أن يثير انضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) امتعاض الروس بالدرجة الأولى. لغاية اليوم، يبدو أنّ ردّ الفعل الروسيّ أقلّ من التوقّعات. من ناحية ثانية، يبدو أنّ الأتراك يعرقلون عمليّة الانضمام على أمل تسوية مشاكلهم الخاصّة مع الدولتين. إلى جانب الروس والأتراك، قد يكون للفرنسيّين دوافع خاصّة تحثّهم على عدم ملاقاة طلب فنلندا والسويد بكثير من الارتياح.

على المستوى العلنيّ، رحّب الإليزيه برغبة الدولتين في الانضمام إلى الحلف وأعرب عن دعمه لهما. بالرغم من الترحيب، ثمّة مؤشرات إلى أنّ هذه الخطوة لا تتلاءم بشكل كبير مع تطلعات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. لن يقول الإليزيه ذلك علناً، لكنّ مشروع التوسّع الأطلسيّ لا يناسب طموحاته التي ذكرها في مناسبات سابقة.

 

ما قاله في 2019

بالحدّ الأدنى، إنّ استمرار الناتو في توسّعه يناقض بشكل أساسيّ ما قاله ماكرون منذ ثلاثة أعوام عن أنّ الحلف دخل مرحلة "موت دماغيّ". أعلن ماكرون عن موقفه المفاجئ بعدما سمح الرئيس السابق دونالد ترامب لنظيره التركيّ رجب طيب أردوغان بشنّ توغّل محدود في شمال شرق سوريا لتأسيس ما وصفته تركيا بأنّه "منطقة آمنة". شعر ماكرون بأنّه تعرّض لضربة قويّة من الأميركيّين بفعل الضوء الأخضر الذي أعطاه ترامب من دون التشاور مع فرنسا التي تنشر قوات لها في تلك المنطقة. انتهى التوغّل سريعاً حينها بفعل ضغط المستشارين والكونغرس على الرئيس الأميركيّ الذي هدّد أنقرة بالعقوبات في حال استمرّت عمليّتها.

لكن إذا كان تعبير "الموت الدماغيّ" نتيجة لردّ فعل آليّ على التوغّل التركيّ المفاجئ، فإنّ ريبة ماكرون من الحلف الأطلسيّ قديمة. منذ سنة 2018، دعا الرئيس الفرنسيّ إلى بناء جيش أوروبي مستقلّ على طريق تحقيق "الاستقلالية الأوروبية" السياسية والأمنية عن واشنطن. قوبلت هذه المطالبة بتردّد أوروبيّ وحتى ألمانيّ. ليس سرّاً أنّ دول أوروبا الشرقية وتحديداً دول الجناح الشرقيّ للحلف الأطلسيّ ترى ضمانتها الأمنيّة في التحالف مع الولايات المتحدة، لا مع فرنسا أو الاتحاد الأوروبي. بالمقابل، ثمّة ارتياب أوروبي كبير من "النزعة" الفرنسية لتأسيس زعامة أوروبية مقرّها الإليزيه. في نهاية المطاف، دخلت "الاستقلالية الأوروبية" حالة "موت دماغيّ".

 

اعتراف ضمنيّ

لا يترادف ذلك بالضرورة مع فرحة أميركيّة. تفضّل الإدارات المتعاقبة في واشنطن تركيز الجهود على منطقة شرق آسيا لمواجهة النفوذ الصينيّ المتصاعد. أن تكون أوروبا قادرة على الدفاع عن نفسها في مواجهة روسيا يخفّف العبء العسكريّ عن الولايات المتحدة. لكن كلّ المؤشّرات تشير إلى أنّ أوروبا لا تزال بعيدة عن تحقيق هذا الهدف، أوّلاً بسبب التقاعس الكبير في الإنفاق العسكريّ طوال العقد الماضي، وثانياً بسبب الخلافات التاريخية والثقافية بين القوى الأوروبية.

ثمّة علامة أخرى تظهر أنّ مشروع ماكرون مجمّد بالحدّ الأدنى. في طلب فنلندا والسويد الانضمام إلى الناتو اعتراف ضمنيّ بأنّ الاتّحاد الأوروبي غير قادر على ضمان أمن أعضائه. على الرغم من الانطباع العام السائد عن أنّ الناتو حلف عسكريّ والاتحاد الأوروبي حلف سياسيّ-اقتصاديّ، يبقى أنّ المعاهدة التأسيسية للاتّحاد تنصّ، كما هي الحال بالنسبة إلى الناتو، على الدفاع الجماعيّ عن أيّ عضو يتعرّض للاعتداء الخارجيّ. إنّ طلب فنلندا والسويد الحصول على عضوية الحلف يعني أنّ الاتحاد الأوروبي أعجز عن حمايتهما، بالرغم من أنّهما انضمّتا إلى الاتحاد منذ أكثر من ربع قرن.

من ناحية أخرى، لا تزال روسيا أبرز منافس استراتيجيّ للحلف الأطلسيّ بصرف النظر عن المسؤول الأساسيّ عن هذه العلاقة الملتبسة بل المتدهورة. لكنّ ماكرون ينظر إلى روسيا على أنّها جزء طبيعي من أوروبا. تأكّدت نظرة ماكرون عبر سياسات فرنسية مختلفة من بينها خفض الدعم العسكريّ لأوكرانيا إلى حدوده الدنيا، ورفض استخدام تعابير قاسية بحقّ روسيا لما ترتكبه في أوكرانيا أو لما تُتّهم بارتكابه هناك، كما رفض العمل على "إذلال" موسكو في حربها. علاوة على كلّ ذلك، شاركت فرنسا وألمانيا في مخطط لتلافي الحظر على الصادرات العسكرية الأوروبية التي فرضت على روسيا بعد ضمّ القرم. وترفض فرنسا أيضاً تسريع عملية ضمّ أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي بالرغم من أنّها تتقدّم بمقترحات وسطيّة أخرى لتعزيز تعاونها مع الاتحاد. بيّنت جميع هذه السياسات والتصريحات حجم الاختلاف بين النظرتين الأطلسيّة والفرنسيّة إلى الدور الروسي في أوروبا.

 

"سذاجة غريبة"

اللافت في توقيت طلب ستوكهولم وهلسينكي الانضمام إلى الحلف الأطلسي تزامنه مع فوز ماكرون بالانتخابات الرئاسية بأرقام غير مريحة كما كانت في 2017. صحيح أنّ هذا التزامن لا علاقة له بنتيجة الانتخابات، لكنّه يقدّم للمراقبين مادة للمقارنة بين "الانتكاسات" التي يواجهها مشروعه "الوسطيّ" في الداخل ومشروعه "الأوروبي-الليبيرالي" في الخارج. خروج هذين المشروعين بأقلّ الأضرار الممكنة هو أبرز تحدّ أمام ماكرون خلال السنوات المقبلة. لكنّ التحدّي بشقّه الأوروبّيّ يأخذ بعداً ملحّاً مع الغزو الروسيّ لأوكرانيا.

في وقت سابق من الشهر الحاليّ، كتبت شيريل جايكوبس في صحيفة "تيليغراف" البريطانية أنّ المبادئ التي بنى عليها ماكرون رؤيته الكبيرة لأوروبا قد انهارت: "محاولات ماكرون المخزية للتفاهم مع بوتين عشية حرب أوكرانيا كانت بمثابة قمة جبل الجليد. إنّ محاولة باريس في السنوات الأخيرة إقامة ‘علاقة خاصة‘ مع بوتين عبر إشراكه في قضايا (تبدأ) من التغير المناخي (وتصل) إلى إيران تبدو الآن ساذجة بشكل غريب".

 

دليل آخر

تعبّر جهود فنلندا والسويد للانضمام إلى الحلف الأطلسيّ عن تعزّز مشروع الناتو في مقابل المشروع الأوروبي. ليس من الضروريّ أن يدخل المشروعان حالة من التنافر العلنيّ في أيّ وقت قريب. على العكس من ذلك، ثمّة محاولات لخلق إمكانيّة تكامل بين هذين المشروعين. كما أنّه ليس من شأن الجهود الفنلندية والسويديّة أن توجّه ضربة لمشروع ماكرون في المدى المنظور. ربّما تشكّل تلك الجهود رافعة للرئيس الفرنسيّ كي يقنع بوتين بمراجعة حساباته والقبول بمخرج فرنسيّ-ألمانيّ محتمل للحرب في أوكرانيا، قبل تعاظم خسائره الاستراتيجية في أوروبا.

لكنّ مشكلة هذا المخرج تكمن في ارتباطه بنيّة بوتين القبول بالتفاوض وهي نيّة غير مؤكدة لغاية اليوم. على الأرجح، يريد ماكرون أن تلعب بلاده دور الموازِن بين واشنطن وموسكو. ربما أمّنت الحرب على أوكرانيا هذه الفرصة لفرنسا. لكن لغاية اليوم، لا تزال أوروبا تفضّل مظلّة الحماية التي توفّرها أميركا على تلك التي يمكن أن توفّرها فرنسا ومن خلفها أوروبا. لم تقدّم فنلندا والسويد وحدهما دليلاً قاطعاً على ذلك. سويسرا هي الأخرى تريد تعزيز علاقتها مع الناتو.