ألحق الغزو الروسي لأوكرانيا أضراراً كبيرة بموقع روسيا العالمي قد لا تكون قابلة للتعويض في المستقبل القريب مهما تكن نتيجة الحرب. السؤال الذي لا يزال يتردد بين المراقبين يتعلق بحسابات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التي دفعته لاتخاذ قرار الحرب أو "العملية العسكرية الخاصة" وفقاً للتسمية الروسية. من الواضح أنّ كلفة الحرب باتت أكبر من أيّ مكاسب مرتجاة منها. إذاً أين أخطأ بوتين في حساباته؟
على هذا السؤال أجابت العميدة المؤسّسة لكلّيّة بلافاتنيك للحوكمة في جامعة أكسفورد نايري وودز في العدد الحالي من مجلة "فورين أفيرز". إذا كان الجواب الكلاسيكي على خطأ بوتين يتمحور حول رفضه الإصغاء إلى مستشاريه، فإجابة وودز أكدت هذا المنحى لكنّها ذهبت أبعد عبر تعداد أسباب أخرى وإصدار تنبيهات إلى أنّ النظام الأوتوقراطي ليس وحده المسؤول عن قرارات استراتيجية خاطئة. في هكذا أحوال، حتى المسؤولون في الأنظمة الديموقراطية قادرون على ارتكاب الأخطاء نفسها.
طبيعة السلطة... وعلم النفس
غالباً ما تقنع السلطة حامليها بأنهم استثنائيون وبأنّ القواعد لا تنطبق عليهم. انتهك بوتين قوانين الأمم المتحدة التي تحرّم استخدام القوة ضد وحدة أراضي دولة أخرى أو ضدّ استقلالها السياسي. وأصرّ على أنّ توغله ليس سوى ضربة استباقية ضد هجوم أوكراني ودفاع مقدّس عن الوطن الأم واستمرار للحرب السوفياتية ضد النازية. هذه التبريرات "جوفاء" ولا تقنع أي أحد خارج روسيا. لكنّ هذه البراهين "الوهمية" أو "السينيكية" ليست ملك الأوتوقراطيين وحدهم بحسب وودز. قالت واشنطن ولندن إنّ فشل العراق بالامتثال للتفتيش الأممي بشأن أسلحة الدمار الشامل شكّل "انتهاكاً مادياً" لوقف إطلاق النار المتوافق عليه منذ عقد وبالتالي كان يحق لهما مواصلة الأعمال العدائية ضد العراق. وظلّ المحامون الدوليون مشكّكين بهذه التبريرات على أساس أنها ذرائع للاحتلال.
ترى وودز أنّ علم النفس يفسّر جزئياً سبب انتهاك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة القانون الدولي علماً أنّهما بذلتا الكثير للدفاع عنه. غالباً ما يكسر القويّ القواعد التي صنعها والتي يستفيد منها لأنه يظن أنه يستطيع ذلك. ووجد علماء النفس أنّه يُرجَّح أن يكذب الأثرياء أكثر من غيرهم عند المقامرة أو التفاوض وأن يبدوا سلوكاً غير أخلاقي في العمل على الرغم من أنّ القوانين تحمي مصالحهم إن لم تكن توفّر لهم مزايا أكثر من غيرهم. لكن بإمكان مكانة الأثرياء أن تدفعهم إلى الإيمان بأنّ حاجاتهم ورغباتهم أهم من أي قواعد. والظاهرة نفسها موجودة في العلاقات الدولية. علماً أنّ وودز لم تذكر الدراسة التي تؤيّد فرضيّتها بشأن سلوك الأثرياء.
أكلاف
لانتهاك القواعد الدولية أكلاف حتى على القوى الكبرى عبر تآكل الثقة بقدرتها ورغبتها بحماية القوانين كما عبر إضعاف عزم جميع الدول على الامتثال لها. بالتالي، تنتهي الدول الكبرى بتقويض النظام الاجتماعي الذي أسّسته بنفسها. ومن الأكلاف الملموسة التي واجهتها روسيا بسبب خطأ بوتين زيادة عدد دول حلف شمال الأطلسي على حدودها بعد الغزو.
علاوة على ذلك، تابعت وودز، يؤمّن القانون الدولي توجيهات وضمانات للمسؤولين داخل الحكومات الذين يعملون تحت الضغوط ووسط الضبابية. إعلان وزير الدفاع الأسبق دونالد رامسفيلد بعد هجمات 11 أيلول أنّ بلاده قد لا تلتزم باتفاقيات جنيف ألقى بحكومته وقواته المسلحة في اللايقين مما أدى إلى ارتكابات سجن أبو غريب والإضرار بموقع أميركا العالمي. وأدى اقتراح الحكومة البريطانية تشريعاً لا يمتثل للاتفاق الموقع مع الاتحاد الأوروبي إلى شلل سياسي لدى مسؤوليها.
حماقة القوة
بفعل نجاحه في القرم وفي الحرب السورية وبفعل تحديث جيشه وإعادة تسليحه بدءاً من 2008، ظنّ بوتين أنّ بإمكانه الفوز سريعاً في أوكرانيا. لكنّ برامج التحديث والتسليح كانت مشوبة بالفساد وغياب الفاعلية كما كتبت وودز. وغالباً ما يقيس القادة قوتهم العسكرية على مستوى أعداد حاملات الطائرات والغواصات والمقاتلات الحديثة... لكنّهم يخفقون مراراً وتكراراً في خوض الحروب: الهولنديون في إندونيسيا (1949) الفرنسيون في الهند الصينية (1954) والجزائر (1962) والأميركيون في فيتنام (1975) والسوفيات في فيتنام. واعترف وزير الدفاع الأسبق روبرت ماكنامارا بأنّ بلاده قللت من أهمية القومية في تحفيز شعب على القتال والموت في سبيل قيمه وأرضه. وواجه بوتين الدينامية نفسها في أوكرانيا.
وحيداً في القمة
كما بإمكان القوة دفع القادة إلى الظن أنهم أقوى مما هم عليه، بإمكانها أيضاً أن تعزلهم وتشجعهم على عدم الإصغاء للآخرين بحسب وودز. كان ذلك واضحاً حين أذلّ بوتين مدير جهاز الاستخبارات الخارجية سيرغي ناريشكين على التلفاز. وذكرت صحيفة "تايمس" اللندنية أنّ بوتين أقال ثمانية جنرالات و150 مسؤولاً في جهاز الأمن الفيديرالي الروسي "أف أس بي" وسجن رئيسه السابق. وبإمكان القادة الديموقراطيين أن يبدوا سلوكاً كهذا كما فعل دونالد ترامب مع مسؤولين في "أف بي آي" وفقاً لمقال الرئيس السابق للجهاز جيمس كومي الذي تحدث عن كيفية "قضم" الرئيس السابق معنويات الحاضرين مما يجعلهم متواطئين من خلال الصمت. وقام رئيس الوزراء الأسبق طوني بلير بالفعل نفسه ولو بطريقة أكثر لباقة قبل حرب العراق فتفادى الاجتماعات الحكومية الرسمية لصالح محادثات وزارية ثنائية مما صعّب على الوزراء تكوين وجهات نظر مختلفة أو تحدي وجهة نظر بلير. وهذا ما وجدته تحقيقات بريطانية لاحقة.
ويبدو أنّ بوتين لم يشاور أصدقاءه حيث أعرب الرئيس الصيني شي جينبينغ عن "ألمه لرؤية نيران الحرب تستعر مجدداً في أوروبا" وأصدرت الحكومة الهندية بياناً حاداً يؤكد فيه مبدأ السيادة الوطنية بينما أدانت صربيا المقربة من روسيا الغزو في الأمم المتحدة. ورفض قادة قرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان دعم الغزو الروسي.
عن خطوات الغرب
وحين يريد الغرب فرض عقوبات سيتعيّن عليه أيضاً التفاوض وعقد تسويات مع دول مختلفة من بينها شركاء موسكو التجاريون. فهناك قوى تريد الحفاظ على وحدة الدول وسلامة أراضيها لكنها لا تريد "إضعاف" روسيا بحسب تعبير وزير الدفاع الأميركي لويد أوستين. وتنتقد دول أفريقية ازدواجية المعايير الغربية لعدم إدانة معتدين آخرين مثل إسرائيل أو عدم اهتمام الغرب بالنزاعات التي تحصل في القارة السمراء. وثمة مصلحة أفريقية عميقة مع روسيا والصين اللتين حققتا خرقاً كبيراً في أفريقيا من حيث الأمن والاستثمارات. كذلك، ثمّة صعوبة في إخراج روسيا من صندوق النقد الدولي بحسب طلب أوكرانيا لأنّ الدول الممتنعة أو المصوّتة ضدّ طرد روسيا من مجلس حقوق الإنسان تشكّل نحو 30% من القوى المصوّتة في "الصندوق" بينما هنالك حاجة لتصويت 85% لصالح قرار إبطال عضوية روسيا فيه.
يؤكّد ذلك خطأ تعلّق الغرب بفكرة مجموعة السبع كدول صانعة للقرار على الرغم من تحوّل ميزان القوة الاقتصادي وخطأ تقسيم العالم إلى صراع بين دول ديموقراطية وأوتوقراطية بحسب الكاتبة.
بين التشابه والاختلاف
لا شكّ في أنّ المقارنات بين غزو روسيا لأوكرانيا وغزو أميركا للعراق تحمل جاذبيتها الخاصة بفعل نقاط التشابه الكثيرة بين الحربين. تسبّبت كلتا التجربتين بمآس كبيرة للشعبين العراقي والأوكراني كما أضرّتا بمكانتي الولايات المتحدة وروسيا على المدى البعيد. وأظهرت التجربتان فعلاً أنّ حاملي السلطة يظنّون أنّهم أقوى ممّا هم عليه وقادرون على تغيير الأنظمة واستبدالها بما يناسب تطلّعاتهم. لكن لهذه المقارنة حدودها أيضاً.
لم يقل الرئيس الأسبق جورج بوش الابن إنّه ما من شيء اسمه العراق، كما قال بوتين عن أوكرانيا سنة 2008 على ما يُنسب إليه حتى في الصحافة الروسية. ولم يعتمد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مناورات مع المجتمع الدولي على عكس الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين الذي أوحى بأنّه يملك أسلحة للدمار الشامل ظناً منه أنّه يردع إيران. وبعكس عراق صدام، لم تظهر أوكرانيا سلوكاً عدوانياً تجاه جيرانها. صحيح أنّ توق كييف للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي لم يكن مريحاً بالنسبة إلى موسكو، لكن لا أحد توقّع حصول كييف على هذه العضوية في المستقبل القريب، أو حتى البعيد بحسب تعبير أمين عام الناتو الأسبق ياب دي هوب شيفر. حتى روسيا المعارضة للحرب على العراق كانت متأكدة بأنّ صدام لن يسمح للمفتشين بدخول العراق ولن يمتثل للقرارات الدولية من دون استخدام القوة العسكرية بحسب وثائق بريطانية رسمية. ولم تجد لجنة تحقيق خاصة في الكونغرس أنّ إدارة بوش ضغطت على مسؤوليها كي تقدّم أدلّة تؤيّد الحرب.
وبدا الحديث عن النازية في أوكرانيا مضخماً. على الرغم من أنّ لأوكرانيا "مشكلة حقيقية" مع تشكيلات نازية، ما من دليل على أنّ هذه التشكيلات تمارس القتل الجماعي والتطهير العرقي، أو أنّها تمارس سلوكها برعاية من الدولة. وأداؤها على مستوى الانتخابات التشريعية سيئ جداً. كما أنّ الغرب يتّهم فرقاً تشارك في القتال مع روسيا باستخدام شعارات نازية. أخيراً، ما من شبهات بارتباط حكومة كييف بتنظيمات إرهابية مثل "القاعدة" أو جماعات مقرّبة منها كما كانت الشبهات سائدة بحق صدام حسين.
تبقى نقطة التشابه الأساسية وربما الأخطر بين حربي العراق وأوكرانيا حجم انحياز الحكومات إلى استخدام القوة العسكرية كسبيل غالباً ما يبدو الأسهل أو الأوحد لتحقيق الأهداف مهما كانت التصورات التي تستند إليها. لكن، بعد حربي العراق وأفغانستان أصبحت الولايات المتحدة أقل ميلاً لشنّ الحروب الخارجية حتى أصبح شعار "إنهاء الحروب التي لا تنتهي" شعاراً مشتركاً بين الإدارات الجمهورية والديموقراطية. سيكون مثيراً للاهتمام معرفة ما إذا كان الإخفاق في أوكرانيا سيدفع روسيا إلى اعتناق حذر مشابه بعد فترة من الزمن.