النهار

2022... التغيّر المناخيّ يحطّم أرقاماً قياسيّة
جورج عيسى
المصدر: "النهار"
لكن لا تدعوا اليأس يحبطكم
2022... التغيّر المناخيّ يحطّم أرقاماً قياسيّة
عربات التزلّج في "سنترال بارك" في الولايات المتحدة خلال العاصفة القطبية التي تضرب البلاد (أ ف ب).
A+   A-

لولا ظاهرة "لا نينيا" (مقابل ظاهرة إل نينيو) التي تشهدها الأرض للسنة الثالثة على التوالي، لربّما كانت سنة 2022 أحرّ سنة على الإطلاق. لكن بما أنّ الظاهرة المذكورة تعمل على تبريد نسبيّ للأرض من خلال تبريد المحيط الهادئ، وسطه وشرقه تحديداً، يرجّح العلماء أن تكون سنة 2022 خامس أو سادس أحرّ سنة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وربّما تحتلّ المرتبة الرابعة على هذا الصعيد.

 

 

ذوبان الأنهار الجليديّة من أوضح المؤشّرات إلى التغيّر المناخيّ بفعل الاحترار العالميّ السريع (بيكساباي)
  

جليد الألب ينهار

شهدت 2022 ظواهر مناخيّة متطرّفة مثل تفكّك بعض الأنهار الجليديّة فوق جبال الألب في حدث هو الأوّل منذ آلاف السنين. وقال عالم الجليديّات في جامعة زوريخ البحثيّة دانيال فارينوتي إنّ هذه السنة كانت "الأسوأ حتماً" بالنسبة إلى الانحسار الجليديّ فوق الألب، حيث كان معدّل درجات الحرارة في سويسرا أعلى بـ0.4 درجات مئويّة من الرقم القياسيّ المسجّل في 2021.

 
 

ممرّ تسانفلورون في الألب السويسرية من دون جليد للمرّة الأولى منذ ما لا يقلّ عن ألفي عام (أ ف ب) 

 

ونبّهت الأمم المتّحدة في تشرين الثاني إلى أنّ ثلث الأنهار الجليديّة التي تصنّفها الأونسكو ضمن التراث العالميّ سيختفي بحلول سنة 2050 حيث تذوب الأنهار المصنّفة بمعدّل 58 مليار طنّ سنويّاً وهو ما يعادل حجم المياه التي تستخدمها فرنسا وإسبانيا في السنة.

 

بالحديث عن فرنسا وإسبانيا

كانت 2022 الأحرّ بالنسبة إلى فرنسا وإسبانيا منذ إطلاق سجلّات الأحوال الجوّيّة. فهذان البلدان، إلى جانب معظم بلدان أوروبا الغربية، كانا على موعد مع عدد من موجات الحرّ القياسيّة والمتلاحقة خلال الصيف الماضي. قالت منظّمة الصحّة العالميّة في تشرين الثاني إنّ ما لا يقلّ عن 15 ألف شخص توفّوا بسبب تلك الموجات التي امتدّت من حزيران وحتى آب.

 

 

مواطن يحاول إطفاء حريق اندلع في شمال إسبانيا وسط موجة حرّ قياسيّة، تموز 2022 (أ ب)

 

وكانت تلك الأشهر هي الأحرّ في أوروبا منذ بدأت السجلّات فتسبّبت بأسوأ موجة جفاف منذ العصور الوسطى. أدّى ذلك إلى تراجع المحاصيل الغذائيّة واندلاع حرائق عدّة وانقطاع في التيّار الكهربائيّ. واضطرّت شركة كهرباء فرنسا إلى إطفاء بعض مفاعلات الطاقة النوويّة بسبب ارتفاع حرارة مياه الأنهر التي تعمل على تبريدها من جهة، وانخفاض منسوبها بفعل الجفاف من جهة أخرى.

 

مطار بريطانيّ... "يذوب"

بلغت درجات الحرارة في المملكة المتحدة عتبة الأربعين للمرّة الأولى منذ إطلاق سجلّات الأحوال الجوّيّة. بالفعل، تعرّض أحد مدرجات المطارات في بريطانيا للذوبان بفعل الحرّ الشديد ممّا أوقف بشكل مؤقّت حركة السفر فيه. لم يكن صيف أوروبا الغربية وحده ما كسر الأرقام القياسيّة. لكن لفصل الخريف أيضاً بصمته المتطرّفة. فقد شهدت أوروبا أعلى درجات الحرارة المسجّلة على الإطلاق في شهر تشرين الأوّل.

 

أمطار... في غرينلاند!

للمرّة الأولى في شهر أيلول، شهدت غرينلاند أمطاراً بدلاً من تساقط الثلوج. ترافق ذلك مع استمرار انحسار الرقعة الجليديّة فوق الجزيرة للسنة السادسة والعشرين على التوالي. وصدرت دراسة حديثة هذه السنة نُشرت في مجلّة "نيتشر" وجدت أنّه حتى ولو توقّف تصاعد الاحترار العالميّ منذ اليوم، ستؤدّي درجات الحرارة المرتفعة قياساً بعصر ما قبل الثورة الصناعيّة (نحو 1.15 درجة مئوية) إلى خسارة ما لا يقلّ عن 3.3% من حجم الغطاء الجليديّ في غرينلاند.

 
 

الجليد في غرينلاند (2019 أب). في 3 أيلول 2022، كانت الحرارة فوق الصفر على قمّة ترتفع نحو 3200 متر عن سطح البحر. مثّل ذلك جزءاً من موجة حرّ أذابت الجليد فوق مساحة 600 ألف كيلومتر مربّع.

 

وفي تقريرها لسنة 2022 عن التأثيرات المناخيّة، قالت الهيئة الحكوميّة الدوليّة المعنيّة بتغيّر المناخ إنّه حتى إذا استقرّ الاحترار عند مستوى يتراوح بين 2 و 2.5 درجات مئويّة، "فستستمرّ إعادة رسم الأراضي الساحليّة على مدى آلاف السنين، الأمر الذي قد يؤثّر على ما لا يقلّ عن 25 مدينة كبيرة ويغرق المناطق المنخفضة" حيث كان يعيش سنة 2010 نحو 1.3 مليار شخص.

 

لآسيا نصيبها... "أسوأ فيضان في التاريخ"

انتشرت التأثيرات المتطرّفة للتغيّر المناخيّ حول العالم. ضاعفت "لا نينيا" من هذه التأثيرات بحيث تتسبّب بموجات جفاف في أماكن وأمطار طوفانيّة في أماكن أخرى. يعاني نحو 600 مليون هنديّ مثلاً من الإجهاد المائيّ "من المستوى العالي أو الأقصى" كما تشهد الهند ذوباناً متسارعاً في أنهارها الجليديّة وتصاعداً في عدد الانهيارات الجليديّة القاتلة. وجارتها باكستان لم تكن أفضل حالاً إذ شهدت "أسوأ فيضان في تاريخها" مع مقتل أكثر من 1700 شخص وتأثّر نحو 33 مليون نسمة بتداعياته. وتتمتّع باكستان بأعلى عدد من الأنهار الجليديّة بالمقارنة مع جميع المناطق غير القطبيّة. لهذا السبب، كان ذوبان هذه الأنهار أحد العوامل في تلك الفيضانات.

 
 

أحد مشاهد الفيضانات في باكستان (أ ب)

 

وبينما استضافت الصين دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في شباط الماضي، كانت مضخّات الثلوج الاصطناعيّة المخصّصة لإنجاح الحدث تسلّط الضوء على تأثير الاحتباس الحراريّ على هذا النوع من الرياضات. شكّلت دورة الألعاب في بكين أوّل دورة أولمبيّة تستخدم ثلوجاً اصطناعيّة بنسبة 100% تقريباً، وبحلول نهاية القرن الحالي قد تبقى مدينة واحدة من أصل 21 استضافت ألعاباً رياضيّة شتويّة قادرة على احتضان هذه المناسبة مرّة أخرى بحسب إحدى الدراسات. وواجهت الصين بين حزيران وآب أسوأ موجة حرّ منذ ستّين عاماً.

 

أفريقيا... الأقلّ تلويثاً والأكثر معاناة

بصفتها القارّة الأكثر هشاشة أمام التغيّرات المناخيّة على الرغم من أنّها مسؤولة فقط عن 3% من مجمل انبعاثات غازات الدفيئة، واجهت أفريقيا أيضاً ظواهر مناخيّة متطرّفة من الحرائق في الجزائر إلى الفيضانات في جنوب أفريقيا. وفي عشرة أشهر، فقدَ نحو 4 آلاف أفريقيّ حياتهم بفعل الأحوال الجوّيّة المتطرّفة وتأثّر 19 مليوناً آخرين، علماً أنّ عدد الضحايا المبلّغ عنهم يكون أقلّ من الرقم الفعليّ عادة. ووصلت درجة الحرارة في تونس إلى 48 درجة في آب محطّمة الرقم القياسيّ السابق المسجّل سنة 1982 وهو 46.8 درجات. وعانت أفريقيا من فيضانات كثيرة في غربها وجفاف واسع في شرقها.

 
 

الجفاف في الصومال يتسبّب بنزوح كبير (أ ب)

 

ولم تنجُ الولايات المتحدة من الآثار غير المباشرة للتغيّر المناخيّ إذ قتل إعصار أيان الذي ضرب الولايات المتحدة في أيلول نحو 100 ضحيّة وهو الرقم الأكبر منذ قرابة 90 عاماً.

 

"كوب-27"... تقدّم بطيء وحساب

خرجت الدورة السابعة والعشرون لمؤتمر الأطراف الأمميّ بشأن التغيّر المناخيّ "كوب-27" والتي استضافتها مصر باتّفاق لتأسيس صندوق "الخسائر والأضرار" التي يتسبّب بها التغيّر المناخيّ. كان ذلك بمثابة "انتصار تاريخيّ" للدول الأفقر حول العالم بحسب توصيف صحيفة "الغارديان" البريطانيّة. فرحةُ الدول الفقيرة بهذا الإنجاز مفهومة لأنّها طالبت بهذا الصندوق منذ سنة 1992. حاولت الدول الثريّة التفاوض حول إعطاء تلك الدول أنظمة إنذار مبكرة وتأمينات لكنّها في النهاية "رمشت أولاً" وقبلت بتأسيس الصندوق.

بالرغم من أهمّيّة تلك الخطوة، لا يزال يتعيّن تحديد كيفيّة توفير الأموال ومكامن إنفاقها وكيفيّة تصنيف الدول الأكثر هشاشة أمام التغيّر المناخيّ والتي ستحظى بالأموال. ستعمل "لجنة انتقاليّة" على دراسة هذه المسائل الإشكاليّة وغيرها قبل أن ترفعها إلى دورة "كوب-28" التي ستستضيفها الإمارات العربية المتحدة. ولن يشتمل الصندوق على أيّ تحمّل للمسؤوليّة عن أضرار التغيّر المناخيّ أو أيّ "تعويضات" عمّا تسبّبت به النشاطات البشريّة في هذا الإطار، كما قال مسؤول في إدارة بايدن لشبكة "سي أن أن".

 

 

فاعليات كوب-27 (أ ف ب)

 

باستثناء الاتّفاق على تأسيس الصندوق، والذي من المحتمل ألّا يبصر النور قبل سنوات عدّة وفقاً لـ"رويترز" جاءت نتيجة "كوب-27" مخيّبة للآمال على مستوى خفض الانبعاثات. فبعد اختتام الدورة، قال رئيس مؤتمر الأطراف "كوب-26" البريطانيّ ألوك شارما إنّ "وصول الانبعاثات إلى ذروتها قبل سنة 2025، كما يخبرنا العلم، أمر ضروريّ. لم يُدرج في النص. المتابعة الواضحة للتخلّص التدريجيّ من الفحم لم تُدرج في النص. التزامٌ واضح بالتخلّص التدريجيّ من جميع أنواع الوقود الأحفوريّ لم يدرج في النص... سيتعيّن على كلّ واحد منّا أن يشرح ذلك لمواطنينا وللدول والمجتمعات الأكثر ضعفاً في العالم، وفي النهاية للأطفال والأحفاد الذين يعود العديد منا الآن إليهم في الديار."

 

النصف الملآن من الكوب

بالرغم من هذه الصورة القاتمة التي تعكس الواقع إلى حدّ بعيد، ثمّة مؤشرات إلى أنّ المجتمعات والحكومات تصبح أكثر وعياً تجاه مخاطر التغيّر المناخيّ. كتب مدير العلوم الحيوية في المجلس الأميركي للعلوم والصحة كاميرون إنغليش مقال جديراً بالملاحظة في موقع "بيغ ثينك" حيث أنّه وسط العناوين المناخيّة السلبيّة، تبرز أرقام إيجابيّة نادراً ما تحظى بالاهتمام.

فبين 1970 و 2020، انخفض مجموع انبعاثات ستّة ملوّثات شائعة بـ78%. ووسّعت المحاصيل المعزّزة التي تمّ تطويرها بين 1965 و 2010 الإنتاج الغذائيّ بأكثر من 40% ممّا وفّر على العالم 83 تريليون دولار. وكلّ هذا حصل على مساحات أقل من الأراضي المخصّصة للزراعة. فمنذ 1961 توسّعت الأراضي الزراعيّة بمقدار 7% فقط، بينما ازداد السكّان بنسبة 150%، كما اجتاز العالم "ذروة" إزالة الغابات بدءاً من التسعينات.

 

ماذا عن التغيّر المناخيّ؟

يجيب إنغليش بأنّ انتشار المكيّفات خفّف نسبة الوفيات المرتبطة بالطقس كما خفّفت التكنولوجيا ضحايا الكوارث الطبيعيّة من مليون ضحية سنوياً منذ قرن إلى نحو 10 أو 20 ألفاً في الوقت الحاليّ. ولفتت الأبحاث الحديثة إلى أنّ الوقود الأحفوريّ ولّد غازات دفيئة أقلّ ممّا توقّعته النماذج المناخيّة، بينما أشارت "نيويورك تايمز" في تشرين الأوّل إلى أنّ انخفاض كلفة الطاقة المتجدّدة والتعبئة السياسيّة العالميّة والصورة الأوضح عن مستقبل الطاقة جعلت البشر "يخفّضون الحرّ المتوقّع بنحو النصف خلال خمسة أعوام وحسب."

 
 

الطاقة النظيفة تصبح أقلّ كلفة وأوسع انتشاراً (أ ف ب) 

 

تبيّن هذه الأرقام أنّ المستقبل المناخيّ ليس سلبيّاً بالضرورة. البشر قادرون دوماً على اجتراح الحلول لأصعب المشاكل. السؤال هو إذا ما كان ابتكار الحلول المناخيّة سيأتي متأخّراً أم في الموعد المناسب. فلنودّع 2022 بالمقدار نفسه من التفاؤل الذي أبداه إنغليش.

اقرأ في النهار Premium